تحليل نص ديكارت الشخص والهوية ثانية باك
أي شيء أنا إذن؟ أنا شيء مفكر، وما الشيء المفكر ؟ إنه شيء يشك، ويفهم، ويتصور، ويثبت، وينفي، ويريد، ويتخيل، ويحس أيضا، إنه ليس بالأمر اليسير أن تكون هذه كلها من خصائص طبيعتي ولكن لم لا تكون من خصائصها؟ ألستُ أنا ذلك الشخص نفسه الذي يشك الآن في كل شيء تقريبا، وهو مع ذلك يفهم بعض الأشياء و يتصورها ويؤكد أنها وحدها صحيحة، وينكر سائر ما عداها، ويريد أن يعرف غيرها، ويأبى أن يُخدع ويتصور أشياء كثيرة على الرغم منه أحيانا، ويحس منها الكثير أيضا بواسطة أعضاء الجسم؟ فهل هناك من ذلك كله شيء لا يعادل في صحته اليقين بأني موجود، حتى لو كنت نائما دائما وكان من مَنَحَنِي الوجود يبذل كل ما في وسعه من مهارة لإضلالي؟ وهل هنالك أيضا صفة من هذه الصفات يمكن تمييزها عن فكري أو يمكن القول بأنها منفصلة عني ؟ فبديهي كل البداهة أنني أنا الذي أشك وأنا الذي أفهم وأنا الذي أرغب و لا حاجة إلى شيء لزيادة الإيضاح.
ومن المحقق كذلك أن لدي القدرة على التخيل: لأنه على الرغم من أنه من الممكن - كما افترضت فيما سبق - أنه لا شيء مما أتخيل بحقيقي، فإن هذه القدرة على التخيل لا تنفك أن تكون جزءا من فكري، وأنا أخيرا الشخص عينه الذي يحس أي الذي يدرك أشياء معينة بواسطة الحواس...
من هنا بدأت أعرف أي شيء أنا، بقدر من الوضوح و التميز يزيد عما كنت أعرف من قبل.
المصدر: “ديكارت”، التأملات، التأمل الثاني، ترجمة عثمان أمين ، مكتبة الأنكلو مصرية ، الطبعة الثانية ، 1974، ص: 101-103
نموذج تطبيقي لتحليل ومناقشة نص ديكارت
الفهم
النص الذي أمامنا مقتطف من كتابات الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، فمن خلال المفاهيم المتضمنة في النص، يتضح أنه ينتمي إلى مجزوءة الوضع البشري، وتحديدًا في إطار مفهوم الشخص. النص يعالج قضية الشخص والهوية، وهي قضية محورية في الفلسفة الحديثة، حيث ينطلق الفيلسوف من التأمل في الذات البشرية ومحاولة تحديد طبيعتها.
ديكارت يبدأ النص بطرح سؤال جوهري: "أي شيء أنا إذن؟" ويجيب عليه بأنه "شيء مفكر"، مما يقودنا إلى مفارقة معقدة حول طبيعة الشخص. فهل الشخص هو مجرد كيان يفكر أم أنه يحتوي على جوانب أخرى تساهم في تحديد هويته؟
الكاتب يسعى من خلال هذا النص إلى تحديد ما يشكل جوهر هوية الشخص، وينطلق من فرضية الشك المنهجي، التي تفترض أن كل شيء قابل للشك باستثناء الوجود الذاتي ككيان مفكر. هذه الفرضية تقودنا إلى التساؤل حول العلاقة بين الفكر والوجود:
كيف يمكن للفكر أن يكون دليلًا على وجود الشخص؟ وهل يمكن فصل الفكر عن الصفات الأخرى مثل الإرادة والتخيل والحواس؟
التحليل
يقدم صاحب النص ديكارت في هذا النص أطروحة واضحة ومركزية، وهي أن الشخص هو "شيء مفكر". هذه الأطروحة تعتمد على مجموعة من المفاهيم الأساسية، وهي: الشك، الفكر، الوجود، التخيل، والإدراك الحسي. ديكارت يربط بين هذه المفاهيم ليظهر أن التفكير هو العنصر الأساسي الذي لا يمكن التشكيك فيه، وهو الذي يثبت وجود الشخص.
من الواضح أن فهم هذه الأفكار يرجع إلى تحديد دلالة المفاهيم التالية: الشخص وهو كائن عاقل يتمتع بالوعي والقدرة على التفكير الذاتي، ويعتبر موضوعاً للعلاقات الأخلاقية والقانونية. اما الهوية فهي حالة الوحدة والتماسك التي تجعل الشخص يظل هو نفسه عبر الزمن والتغيرات، وتشمل السمات الشخصية والتجارب والذاكرة.
في النص، يعتمد ديكارت على بنية حجاجية دقيقة تبدأ بالشك في كل شيء، وهو ما يعرف بالشك المنهجي، ثم ينتقل إلى التأكيد على أن الشك نفسه دليل على الوجود ("أنا أشك إذن أنا موجود"). هذا الحجاج يعتمد على التسلسل المنطقي للأفكار، حيث يبدأ بالتشكيك في جميع الحقائق والمعارف، لكنه يستثني الشك الذاتي، الذي يعتبره الدليل الأوحد على وجود الذات.
ديكارت يستخدم أيضًا آليات الحجاج الافتراضي، حيث يفترض أن هناك قوة خبيثة تحاول خداعه، لكنه يصل إلى استنتاج أن هذه القوة لا يمكن أن تشكك في وجوده ككيان مفكر. هذا الاستنتاج يقودنا إلى طرح السؤال التالي: إذا كان الفكر هو الدليل الوحيد على وجود الشخص، فهل يمكن أن يكون هذا الفكر مستقلًا عن باقي القدرات العقلية الأخرى؟
المناقشة
يتجلى من خلال تحليل النص أهمية أطروحة ديكارت بالنظر إلى طبيعة حجاجها، حيث يعتمد على الشك المنهجي كأداة للوصول إلى الحقيقة الأكيدة، وهذا ما يكسب أطروحته مكانة أساسية في تاريخ الفلسفة الحديثة. ديكارت يتمكن من تقديم حجة قوية مفادها أن التفكير هو الدليل القاطع على وجود الذات، وهي حجة لا يمكن تجاوزها بسهولة، لأنها تعتمد على تجربة داخلية مباشرة لا تقبل الشك.
وبالرجوع إلى تاريخ الفلسفة، نجد أن لهذه الأطروحة مواقف مؤيدة عديدة. من بين هؤلاء الفلاسفة باروخ سبينوزا، الذي يرى أن العقل هو جوهر الإنسان وأن التفكير جزء من جوهر الطبيعة ذاتها. سبينوزا يؤيد أطروحة ديكارت من خلال تصوره للإنسان ككائن مفكر يتحد مع العقل الكوني في وحدة متكاملة، مما يعزز من قيمة الفكر كعنصر أساسي في تحديد هوية الشخص.
في المقابل، نجد من عارض هذا الموقف بشكل واضح، مثل ديفيد هيوم، حيث يعتبر أن فكرة الذات المفكرة المستمرة التي يدافع عنها ديكارت ليست سوى وهم. هيوم يعتمد في حجته على تحليل التجربة الإنسانية، مؤكدًا أن ما نعتبره "أنا" ليس سوى مجموعة من الانطباعات الحسية التي تتغير باستمرار. وفقًا لهيوم، لا يوجد شيء ثابت يمكن أن نطلق عليه "الذات"، مما ينفي الأساس الذي تقوم عليه أطروحة ديكارت.
بينما الفيلسوف جون لوك يرى أن الهوية الشخصية تعتمد على الوعي المستمر وليس على التفكير فقط. بالنسبة له، الذاكرة والتجارب السابقة هي التي تشكل هوية الشخص، وليس مجرد القدرة على التفكير.
التركيب
كتركيب عام، يمكن القول إن ديكارت قدم إسهامًا فلسفيًا كبيرًا من خلال تأكيده على أن التفكير هو جوهر هوية الشخص، مما فتح بابًا واسعًا للنقاش الفلسفي حول طبيعة الذات والهوية. إلا أن هذا الرأي لم يكن بلا تحديات، حيث قدم فلاسفة مثل سبينوزا، لوك، وهيوم وجهات نظر مختلفة حول ما يشكل هوية الشخص.
بناءً على التحليل والمناقشة، يتضح أن الإشكال حول هوية الشخص وحقيقة التفكير يظل موضوعًا مركزيًا في الفلسفة، وله تأثيرات عميقة على كيفية فهمنا لأنفسنا وعلاقتنا بالعالم. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن للفكر أن يكون مستقلًا تمامًا عن باقي القدرات العقلية في تحديد هوية الشخص؟
0 تعليقات