نص المدرسة التقليدية مكتوب
عرف البارودي كيف يعيد للشعر العربي الحديث ديباجته القوية، وينهض به نهضة فارعة تخطت عدة قرون إلى الخلف، حتى رجعت إلى عهود القوة والنضارة، متجنبة الزخرف والطلاء الغث، والركاكة، وضحالة المعاني، والتقليد لعصور الضعف والعجمة. ثم نهضت البلاد نهضات قوية في التعليم وإحياء التراث العربي القديم، وأخذت المطبعة تَزْوَدُ المتأدبين بنفائس الأدب العربي في أبهى عصوره (...).
وكان من الطبيعي أن يحذو الشعراء الذين جاؤوا بعد البارودي حذوه في أول الأمر، ولا سيما هؤلاء الذين لم يتزودوا بثقافة غربية، أو عرفوها وثقفوها ولكن لم يكن لهم تلك الطبيعة الثائرة أو القوة على ابتداع مذهب جديد في الادب، ولم يروا نموذجا ابداعيا يحاكونه، فحافظوا على المذهب الذي عرفوه، وأجادوه.
لقد قلدوا الشعر العربي القديم في أوج عزته كما فعل البارودي، ولم يلتفتوا إلا نادرًا لما تخلف عن عصور الضعف من حلي وزخارف ومحسنات، وتاريخ شعري.
وأهم خصائص تلك المدرسة التقليدية الحديثة متانة الأسلوب، والعناية به عناية فائقة فَقَلمَا تجد خروجًا على قواعد اللغة أو خطأً، أو ركاكة، وإنما تجد شعرًا مصقولًا معينًا، مشرق الديباجة. تجد هذا عند حافظ، وعند عبد الطلب، وعند البكري، والجارم، ومحرم، والكاشف، ونسيم ومن على شاكلتهم، على اختلاف بينهم في تقليدهم الشعراء الأقدمين الذين تأثروا بهم، فمنهم من راقه شعراء العصر العباسي والشعر في ازدهاره، فقلدوا أبا نواس والبحتري والمتنبي وأبا العلاء، وابن الرومي، وعارضوهم في قصائدهم ونسجوا على منوال أسلوبهم: جزالةً في رقة الحضارة وعذوبة المدنية القديمة، وولع بالتشبيهات والاستعارات وأنواع المجاز. ومنهم من رجع إلى الخلف أكثر من هذا فتوعر قليلا وحاكى شعراء العصر الأموي أو الجاهلي، وجاء شعره بدوي النسج متين التركيب، عليه سيماء الفتوة العربية قبل أن ترفقها الحضارة، مثل عبد المطلب.
ومن خصائص تلك المدرسة كذلك استخدام القصيدة بمظهرها المعروف ذات الروي الواحد والقافية الواحدة، والوزن الواحد، وكثيرًا ما ابتدأوا تلك القصيدة بالنسيب كما كان يفعل شعراء العرب الأقدمون، أو تركوا النسيب كما فعل ذلك من قبلهم بعض شعراء العصر العباسي حيث بدأوا بالغرض من غير تلك المقدمة المورولة عن الجاهلية. على أن القصيدة الحديثة لا تختلف عن القديمة في تعدد عناصرها، فلم ينظروا إليها نظرتهم إلى بناء متماسك الأجزاء أو كائن حي، إلا قليلاً حين وضعوها في الأسلوب القصصي كما ترى ذلك عند حافظ وعبد المطلب أحيانًا، ولكن الغالب على شعر هذه المدرسة هو جعل البيت - كما كان من قبل - وحدة القصيدة، ويجوز فيها التغيير والتبديل من غير إخلال بالمعنى. وقليل منهم من جزؤ على استخدام الموشحات أو ما يشابهها.
ومن خصائص تلك المدرسة كذلك أن موضوعات شعرهم فلما طرأ عليها تجديد، اللهم إلا ما تقتضيه خصائص العصر العامة. فأغلبهم كان مداحًا، يمدح الخليفة وإن لم يعرفه أو تكن بينه وبينه صلة، أو ثمة أمل في أن يعرفه، ويمدح الأمير وحاشيته، ويغير ولاءه كلما تغيرت الوجوه الحاكمة من غير تحرج أو تردد، لأنه لم يكن ينظر إلى المدح نظرتنا له اليوم، ولأن الاهتمام بالشعب لم يكن قد بلغ غايته، فكان الأمير هو المحور الذي يدورون حوله (...).
وقد صرفهم المديح كما صرف أسلافهم العرب من قبل عن الاهتمام بالطبيعة، وبالحياة الإنسانية، وإن التفتوا في أخريات زمانهم، نظراً لتطور الحياة في مصر، إلى بعض ذلك وإلى الشعب وآماله، ولكنهم على كل حال كانوا ينظرون من خلال ذاتهم ومقدار تأثرهم بالأحداث المحيطة بهم، فلم يكن شعرهم في الشعب موضوعيًا.
وكانوا يهتمون بالطبقة الراقية من الأمة، فيمدحون أعلامها، ويرثون عظماءها، ويتبادلون وإياهم الرسائل الإخوانية.
وقد وصفوا بعض الأشياء، ولكنهم قلما أفردوا للوصف قصائد بذاتها، وأهمل أكثرهم الطبيعة المصرية، أو قال فيها الشيء القليل، ونظر إليها نظرة عابرة من غير أن يقف طويلاً، على الرغم من تنبه الشعور الوطني والإحساس القومي في أخريات عهودهم.
وتراهم أنهم يحاولون التجديد في الموصوفات، وكأن لديهم عقدة نقص يحاولون إخفاءها، فيكثرون من الكلام على الباخرة، والطيارة وغيرها، ليثبتوا أنهم يجارون عصرهم، والحضارة التي يتمتعون بها (...).
أما معانيهم فليس فيها جديد إلا النادر كما ترى ذلك عند توفيق البكري، ومعظمها مأخوذة من الأدب العربي القديم، أو من المعاني المتداولة، وخيالهم تصويري مبني على الاستعارة والتشبيه والمجاز، بل كثيرًا ما تكون تشبيهاتهم غير مجارية لزمانهم أو بيئتهم، وإنما نهجوا فيها نهج العرب الأقدمين، متأثرين بالقوالب المخطوطة، والعبارات المتداولة.
كان أغلبهم متزمتًا، جادًا في حياته، وإذا تغزل عف ولم يفحش، وفي أدبهم تكثر الحكمة والموعظة والإرشاد، فهم يجعلون للشعر غاية يهدفون إليها، ولم يعرفوا معنى "الفن للفن".
وبعد، فهذه أهم خصائص تلك المدرسة. على أن هذه الخصائص المشتركة بين شعرائها تختلف قوة وضعفًا أو وجودًا وعدمًا في بعض الشعراء عن بعض، مع ميل في بعضهم إلى التجديد بحذر، أو نفور منه البتة.
عمر الدسوقي: في الأدب الحديث. الجزء 2. دار الفكر العربي - بيروت. الطبعة السابعة (بدون تاريخ). صفحة 315 - 318 (بتصرف).
المجزوءة الاولى: الشعر العربي الحديث : من احياء النموذج الى سؤال الذات
تأطير النص ضمن سياقه الأدبي والتاريخي
احياء النموذج
نص نظري : المدرسة التقليدية
عرف الشعر العربي في عصر الانحطاط فترة طويلة من الضعف والتدهور والجمود، وطوال هذه الفترة لم يستطع هذا الشعر مواكبة مستواه الفني الذي بلغه في العصور السابقة ( العصر الجاهلي، العصر الاسلامي، العصري الأموي، العصر العباسي)، بل انه لم يتمكن حتى من المحافظة على هذا المستوى، حيث دخل الشعر العربي مرحلة من التراجع تميز فيها.
1- ملاحظة النص
فرضية القراءة
بناءا على ملاحظة عنوان النص "المدرسة التقليدية" والبداية التي تشير الى دور البارودي في احياء الشعر العربي ونهايته التي تدل على أن النص تمحور حول خصائص المدرسة التقليدية، نفترض اننا أمام دراسة نص نظري سيتمحور حول التعريف بالمدرسة التقليدية وابراز أهم خصائصها.
2- الفهم
تحديد القضية الادبية
يطرح النص قضية أدبية تتركز حول التعريف بالمدرسة التقليدية، مع بيان أهم خصائصها. وقد تفردت هذه القضية الى مجموعة من العناصر الجزئية.
- بيان جور البارودي في احياء الشعر العربي.
- الاشارة الى اتباع الشعراء نهج البارودي في احياء الشعر العربي القديم.
- شرح وتفسير أهم خصائص المدرسة التقليدية من حيث الشكل والمضمون.
3- تحليل النص
المعجم
يتألف معجم النص من حقلين، أحدهما دال على شعر الانحطاط والاخر دال على شعر النهضة، كما يتضح من التالي:
شعر الانحطاط : الركاكة - ضحالة المعاني - التقليد لعصور الضعف - الزخرف والطلاء الغث ...
شعر النهضة : القوة والنضارة - احياء التراث - متانة الأسلوب - الوزن الواحد - عليه سيماء الفتوة العربية - مشرق الديباجة ..
اذا تتبعنا بنية المعجم في النص سنكتشف أن العلاقة الجامعة بين الحقلين، هي علاقة تضاد وتعارض، لأن شعر النهضة وجد من أجل تخليص الشعر من ما أصابه في عصر الانحطاط من ضعف وتدهور.
الأسلوب المعتمد في بناء النص
استنباطي: التدرج في عرض الأفكار من العام الى الخاص، بمعنى الانطلاق من محاولة تعريف المفهوم، ثم الشرح والتفسير عبر اعطاء الأمثلة.
استقرائي : التدرج في عرض الأفكار من الخاص الى العام، بمعنى الانطلاق من الأمثلة ثم الشرح والتفسير لبناء المفهوم.
- اعتمد الناقد في بناء نصه اسلوبا استدلاليا استنباطيا، انطلق بموجبه من العام الى الخاص، حيث بدأ بمحاولة تعريف دور البارودي في احياء الشعر، ثم تدرج بعد ذلك في شرح وتفسير أهم خصائص المدرسة التقليدية.
الأساليب الحجاجية
أساليب حجاجية منطقية: التعريف - الشرح والتعبير - المقارنة - السرد - الوصف.
أساليب حجاجية لغوية : التأكيد (ان و أن ...) - التعارض والنفي - الاستدراك ( لكن - بل ..).
الوصف
اعتمد الناقد مجموعة من الأساليب الحجاجية المنطقية واللغوية أثناء عرض تصوره النقدي حول المدرسة التقليدية أمام القارئ، ومن جملة تلك الأساليب الحجاجية نجد أسلوب التعريف (عرف البارودي كيف يعيد للشعر العربي الحديث ديباجته القوية...) وأسلوب المقارنة، حيث قارن الكاتب بين شعر عصر الانحطاط وشعر عصر النهضة، كما استخدم صاحب النص أسلوب الشرح والتفسير ( ومن خصائص تلك المدرسة كذلك استخدام القصيدة بمظهرها المعروف ذات الروي الواحد والقافية الواحدة ...).
لم يكتفي الكاتب بالأساليب الحجاجية المنطقية، بل اعتمد حتى على الأساليب الحجاجية اللغوية كأسلوب التأكيد ( أن موضوعات شعرهم قلما طرأ عليها تجديد) وأسلوب الاستدراك (ولكن الغالب على شعر هذه المدرسة هو جعل البيت ... وحدة القصيدة...).
لقد سعى الكاتب من وراء توضيف كل هذه الاساليب الحجاجية الى الاقناع بتصوره النقدي حول المدرسة التقليدية وجهودها في احياء الشعر العربي.
لغة النص
اختار الناقد لنص لغة تقريرية مباشرة تهيمن عليها الجمل الخبرية الطويلة، مع حضور الأساليب الحجاجية، وقد حرص الكاتب على جعل نصه مترابط الجمل والفقرات من خلال توصيف مجموعة من الروابط اللغوية المنطقية كحروف العطف وأدوات التوكيد والاستدراك.
التركيب
مما سبق يتبين أن النص يطرح قضية أدبية تتعلق بالمدرسة التقليدية ودورها البارز في احياء وبعث الشعر العربي الحديث. وقد تفرعت هذه القضية الى مجموعة من العناصر الجزئية التي حدد من خلالها الناقد خصائص المدرسة التقليدية، ولاقناع المتلقي بتصوره النقدي لجأ الناقد الى توضيف مجموعة من الاليات الاستدلالية والحجاجية، حيث تدرج في عرض أفكاره من العام الى الخاص وضف الاسلوب الاستدلالي الاستنباطي، وبما ان النص عرض نظري سعى من ورائه الكاتب الى التعريف بالقضية المطروحة، فقد اعتمد فيه على مجموعة من الأساليب الحجاجية، كأسلوب التعريف، والمقارنة، والشرح، والتفسير...
بالاضافة الى اعتماد لغة تقريرية مباشرة تميل في الغالب الى الابلاغ والاقناع ولجعل نصه متنسق الفقرات ومنسجم الأفكار، وظف الكاتب مجموعة من الروابط اللغوية المنطقية كحروف العطف، وأدوات التوكيد والتعليل والاستدراك.
وعلى العموم فان الكاتب، قد نجح الى حد كبير في تقديم تصور نظري شامل وواضح حول حركة البعث والاحياء او ما يعرف بالمدرسة التقليدية، وهذا ما يجعل النص وثيقة أدبية يمكن الرجوع اليها من طرف دارس شعر البعث والاحياء، لاكتساب اضافات معرفية حول هذه المدرسة الشعرية وروادها وخصائصها ودورها في احياء الشعر العربي الحديث.
0 تعليقات