محور معايير الحقيقة تحليل ومناقشة فلسفية شاملة للسؤال

ProfSalmi أغسطس 29, 2024 أغسطس 29, 2024
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال: إنَّ إشكالية معايير الحقيقة ومحدداتها هي إشكالية عميقة في مضمونها، وغنية في مقامها، تداخلت في تحليلها ومناقشتها مجموعة من النظريات والأطروحات المتباين
-A A +A

 

منهجية تحليل سؤال فلسفي معايير الحقيقة الثانية باكالوريا

السؤال : الى أي حد يمكن القول بأن دقة الحقيقة تكمن في مطابقتها للواقع التجريبي؟


مقال حول معايير الحقيقة  موضوع فلسفي حول معايير الحقيقة  مقالة فلسفية حول معايير الحقيقة



نموذج تطبيقي للكتابة الانشائية الفلسفية صيغة السؤال

مقدمة: مطلب الفهم

إذا كان الإنسان كائنًا عاقلًا، حرًا وذا إرادة، فإنه أيضًا كائن عارف ومنتج للمعرفة، يسعى دائمًا إلى اكتشاف ذاته ووجوده ومصيره والبحث عن حقيقته. والحقيقة هنا ليست هبة تمنح ولا توجد معطاة جاهزة، بل يتم تأسيسها والتوصل إليها: "إنها ذلك البناء المنهجي الذي وفق جدلية وصراع بين الموضوع والذات". ولعل السؤال الماثل بين ناظرينا يتأطر ضمن مجزوءة "المعرفة" التي تحيل على ذلك التفاعل القائم بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، ومنهج المعرفة. وبشكل خاص ضمن مفهوم الحقيقة، من خلال محور معايير الحقيقة، وهنا تنبع لدينا إشكالية أساسية مفادها مقاييس ومعايير الحقيقة. وباعتبار الفلسفة طرحًا دائمًا للسؤال، فإن الإشكالية المراد دراستها تفرض على كل متسائل وقارئ لها طرح مجموعة من التساؤلات الجوهرية التي يمكن صياغتها على الشكل الآتي:


- ما هي أهم معايير ومحدداتها الحقيقة؟

- إلى أي حد يمكن اعتبار المطابقة للواقع التجريبي معيارًا للتأكد من حقها وصلاحية الحقيقة؟

- هل يمكن القول بأن البداهة هي المعيار الوحيد للحقيقة؟


العرض مطلب التحليل والمناقشة

قبل تسليط الضوء على البنية المفاهيمية المعتمدة في ثنايا السؤال موضوع الدراسة، يجب أن نقارب الأطروحة المتضمنة في السؤال، وفي هذا السياق نجد أن السؤال يتضمن أطروحة جوهرية وعميقة في مضمونها مفادها أن دقة الحقيقة تكمن أساسًا في مطابقتها للواقع التجريبي. على اعتبار أن التجربة تمدنا بحقائق ونظريات ملموسة ومدركة حسيًا، تتقبلها الذات العارفة بشكل مباشر وتجعلها في غنى عن البراهين والدلائل العقلية النظرية. وخير مثال على ذلك هو أن أغلب العلماء في العلوم التجريبية عامة وفي علوم الحياة والأرض بصفة خاصة يعتمدون على معيار التجربة أساسًا للتوصل إلى حقائق مهمة أحدثت ثورة علمية خطيرة في مجال البحث العلمي. فقوانين العالم الطبيعي "ماتدل" مثلًا في مجال الخبر الوراثي الجنسي لدى الكائنات الحية وقد بنيت على غرارها مجموعة من النظريات التي طورت المجال العلمي، والمجال الطبي. وهنا تتبين لنا الأهمية الكبيرة للتجربة في بلوغ الحقيقة اليقينية. فالتجربة تتميز بكونها المعاينة المباشرة والخالصة للظواهر عن طريق الذات باستخدام الحواس. وكل نظرية متعالية عن الواقع التجريبي ولا يمكن إنصاتها للطبيعة أو إسقاطها على أرض الواقع هي حقيقة نسبية لا يمكن إثبات صحتها وصلاحيتها. ليبقى بذلك إذن معيار الوصول إلى الحقيقة اليقينية هو معيار مطابقتها للواقع التجريبي.


تعتبر الفلسفة نتاج المنطق والمعرفة والتفكير السليم، إذ إنها مؤطرة بمجموعة من الأدوات والآليات اللغوية التي تساعد في بناء كل موضوع فلسفي. ويشكل التعقيد المفاهيمي أحد اللبنات الأساسية في المجال الفلسفي. فالمفاهيم حسب الفيلسوف "فريدريك نيتشه" "في حمولتها الفلسفية إبداع خاص لكل فيلسوف تحمل رؤيته للعالم وموقفه من قضية أو قضايا فلسفية".

 ولعل السؤال الذي نحن بصدد دراسته يحمل بين ثناياه مجموعة من المفاهيم الجوهرية. فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد مفهوم الحقيقة الذي يقصد به أساسًا الصدق واليقين وهي ضد الكذب والوهم، وتدل الحقيقة منطقيًا على مطابقة الفكر لذاته، وواقعيًا على مطابقة الحكم لموضوعه، وهي فاعلية إنسانية تتحدد من خلالها علاقة الفرد بغيره وبالعالم. كما نجد مفهوم الدقة وقد أتى في هذا السياق مرادفًا لمعيار الصدق والصلاحية، والمعيار هو المقياس الذي يمكن الذات العارفة من التمييز بين الأفكار الخاطئة والصحيحة، وبين الأشياء الواضحة والمبهمة، وبين الفضائل والرذائل. وأخيرًا نجد مفهوم الواقع التجريبي وهو مرادف للواقع الحسي بمعنى التطابق مع الواقع من خلال التجربة، وهنا تحيل على الإسقاط الواقعي والمعاينة الخالصة والمباشرة للظواهر، عن طريق الذات مستخدمة حواسها وإدراكاتها الحسية. وفي هذا الصدد يمكن القول بأن هذه البنية المفاهيمية ترتبط فيما بينها بعلاقة يمكن وصفها بالمتماسكة، فمعيار صلاحية الحقيقة وصدقها يتمثل أساسًا في معيار المطابقة للواقع التجريبي. فالحقيقة اليقينية تعتمد أساسًا على البراهين التجريبية الملموسة التي يمكن ملاحظتها وإدراكها عن طريق الحواس. أما الحقيقة التي لا يمكن إسقاطها على الواقع فستظل مجرد حقيقة مثالية وميتافيزيقية.


وفي هذا الصدد يمكن استحضار أطروحة الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك" صاحب كتاب "مقالة في الفهم البشري" ورائد النزعة التجريبية. والذي يؤكد أن المعيار الوحيد الذي يمكننا من الوصول إلى الحقيقة هو مطابقتها للواقع التجريبي، ويرفض بذلك أي معيار آخر مخالف للتجربة، ورفضه هذا ناتج عن نفيه لوجود أفكار فطرية وأولية في عقل الكائن البشري. ويؤكد ذلك من خلال قولته الشهيرة "عقل الطفل صفحة بيضاء يتم ملؤها عن طريق التجربة". وبالتالي فإن التجربة هي المقياس الأسمى الذي يمكن الذات العارفة من التوصل إلى الحقيقة. فالحواس تمدنا بأفكار أولية يعمل العقل على التأليف بينها للوصول إلى أفكار مركبة، وبالتالي فإن أفكارنا ذات أصل حسي، والحواس هي التي تجعل من حقيقة ما حقيقة صادقة، يقينية، نزيهة ويمكن الاعتماد عليها. إن معيار الحقيقة هنا يتجلى أساسًا في المطابقة للواقع التجريبي.


ولأطروحة السؤال موضوع الدراسة بصمة واضحة في تاريخ الفلسفة برمتها، سواء على المستوى التاريخي أو على المستوى المعرفي. فمعرفيًا تتجلى قيمة السؤال في التأكيد على أن دقة الحقيقة تكمن في مطابقتها للواقع التجريبي أو بالأحرى التجربة الناتجة عن استخدام الإدراكات الحسية. أما تاريخيًا فإشكالية معايير ومحددات الحقيقة هي إشكالية نوقشت منذ القديم وفتحت باب الجدال والنقاش أمام جملة من الفلاسفة والمفكرين نظرًا لأهميتها الكبيرة في مجال العلم والمعرفة.

 ولكي تكون معالجتنا لهذا الموضوع معالجة شمولية محاطة من مختلف الجوانب، يجب الانفتاح على مجموعة من النظريات والأطروحات التي عالجت هذا الإشكال. فعلى سبيل المثال نجد الفيلسوف "روني ديكارت" رائد النزعة العقلانية وصاحب كتاب "تأملات ميتافيزيقية" والذي يؤكد على أن الأفكار العقلية التي تمكن من بلوغ الحقيقة هما الحدس والاستنباط. فإذا كان الحدس إدراكًا مباشرًا وخالصًا نابعًا من عقل يقظ لا يقبل أدنى شك، فإن الاستنباط هو إدراك غير مباشر للحقائق، يتم من خلاله استنتاج حقائق جديدة عن طريق حقائق أولية وإن لم تكن بديهية ويربط بذلك ديكارت الحدس والاستنباط بقواعد المنهج حيث يربط الحدس بالبداهة، والاستنباط بالتحليل والتركيب والمراجعة.


كما نجد الفيلسوف الوجودي "مارتن هايدغر" صاحب كتاب "الوجود والزمن" والذي يؤكد على أن معيار الحقيقة يتجلى أساسًا في انكشافها، ويقتضي ذلك التغيير عن نفسها بكل حرية. فالذات القادرة على الانفتاح، والتي تستعد لتقبل الواقع كما هو، هي التي تساهم في بلوغ الحقيقة اليقينية لأن "الحقيقة حرية" على حد تعبير هايدغر. وبالتالي فعلى الذات العارفة أن تتحلى بالانفتاح على الواقع وتقبله دون مقاييس مسبقة، فتتمكن بذلك من الوصول إلى معيار أسمى للتأكد من صدق وصلاحية الحقيقة.

 إضافة إلى الفيلسوفين السابقين نجد العالم الفيزيائي الكبير ألبرت أينشتاين الذي يؤكد على أن معيار الحقيقة يتجلى أساسًا في العقل الرياضي وليس المطابقة للواقع التجريبي والحسي. فدقة الحقيقة تكمن في الاستنباط الرياضي وليس الملاحظة التجريبية التحليلية التي ترتكز على الملاحظة. ولتأكيد طرحه يضيف الفيلسوف الألماني صاحب كتاب "العالم كما أراه" أن: "المبدأ الخلاق في العلم لا يتمثل في التجربة بل في العقل الرياضي".


كما نجد الفيلسوف الألماني "هانز رايشاخ" صاحب كتاب "فلسفة العلم" ورائد المدرسة التجريبية المنطقية والذي يؤكد على أن المعيار الوحيد للتأكد من صحة الحقيقة هو التجربة، فالتجربة تتميز بكونها "تجريبية وليست عقلانية أي أنها لا تعتمد على العقل للوصول إلى الحقيقة. كما تتميز بكونها معقولة أي تعتمد على العقل مطبقا على الواقع التجريبي النابع من الملاحظة. وتعتبر هذه الأطروحة أطروحة مدعمة للفيلسوف الإنجليزي "جون لوك" الذي اشتهر بقولته "عقل الطفل صفحة بيضاء والحواس هي التي تمده بالمعارف".

 وأخيرًا، نجد موقف الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار" صاحب كتاب "المادية العقلانية" ورائد المذهب الابستمولوجي والذي اعتبر أن العقل والتجربة يتكاملان فيما بينهما للوصول إلى الحقيقة اليقينية. فهما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما يستمد وجوده من الآخر، فلا يمكن تصور أفكار عقلية بمعزل عن الحواس، ولا يمكن للعقل أن يؤدي وظيفته دون الاعتماد على الإدراكات الحسية. وفي هذا الصدد يمكن استحضار قولة "إيمانويل كانط" الشهيرة: "المقولات العقلية بدون حدوس حسية تبقى جوفاء، والحدوس الحسية بدون مقولات عقلية تظل عمياء".


خاتمة: مطلب التركيب

 وخلاصة القول، إنَّ إشكالية معايير الحقيقة ومحدداتها هي إشكالية عميقة في مضمونها، وغنية في مقامها، تداخلت في تحليلها ومناقشتها مجموعة من النظريات والأطروحات المتباينة، مما فتح باب الجدال والنقاش أمام ثلة من المفكرين والفلاسفة. فمنهم من يرى أن المطابقة للواقع التجريبي هي المعيار الوحيد للحقيقة (جون لوك) ومنهم من يؤكد على أن معيار الانكشاف هو مقياس دقة وصلاحية الحقيقة، في حين أن هناك من يرى أن معيار الحقيقة يكمن في بداهتها وانسجامها المنطقي (ديكارت).


وكرأي شخصي، أعتقد أن معايير الحقيقة تتداخل وتتكامل فيما بينها لمعالجة هذه الإشكالية معالجة شمولية محيطة بها من مختلف الجوانب بهدف إزالة اللبس الذي يعتريها، كما يمكننا أن نشير أيضًا إلى أن مجالات الحقيقة مختلفة ومتنوعة، الشيء الذي يولد معه تنوع على مستوى المعايير، فطبيعة كل موضوع هي التي تحدد نوع المنهج المستعمل، وهي نفسها التي تحدد نوع المعيار المستعمل للتأكد من دقتها.


مصدر هذا التصحيح: مذكرات فلسفية لتلاميذ السنة الثانية باكالوريا د. أحمد الطاهري.

ملحوظة: الاجابة للتلميذ حصل على نقطة 20/ 18،50 في الامتحان الوطني.


شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3332087102290997945
https://www.profsalmi.com/