المحور الثالث: الشخص بين الضرورة والحرية الثانية باكالوريا
سؤال فلسفي حول الشخص بين الضرورة والحرية
لماذا الحرية ماهية الشخص لا الضرورة؟
1- مطلب الفهم
يتأطر السؤال ضمن المجال الإشكالي النظري الأنطولوجي للوضع البشري، المرتبط بمفهوم الشخص في علاقته بالحرية، أكثر المفاهيم المثيرة للنقاش والجدل، إذ تحتل الحرية حيزا كبيرا في التفكير الفلسفي، لما تطرحه من تناقضات وإحراجات، تضعنا أمام مفارقة ضخمة فالشخص في الحس المشترك والحياة اليومية العادية يشعر بشكل عفوي بديهي أنه حُرِّ في أفكاره وإرادته وقراراته واختياراته، وقد يعترض على من ينتقد مواقفه بالعبارة المألوفة "أنا حر "، بيد أن تاريخ العبودية ونضالات الإنسان من أجل التحرر، وجحافل المنظمات والترسانات الحقوقية المدافعة عن الحرية نسائل بداهة الحرية الإنسانية، وهو ما تبرزه الثنائية التالية : الحرية ماهية الشخص لا الضرورة / الضرورة ماهية الشخص لا الحرية، مما يقودنا إلى هذا الطرح الإشكالي:
- هل الشخص ذات حرة مريدة أم كيان فاقد للإرادة وخاضع للضرورة؟
- وإذا كان الإنسان خاضعا للضرورة فهل خضوعه مطلق أم نسبي؟
- ثم ألا يعني التسليم بالضرورة أن الحرية مجرد وهم؟
والسؤال موضوع الدراسة يدفعنا إلى تعميق الإشكال بالتساؤلات التالية:
ما الشخص؟ وما الحرية؟ وهل فعلا أن الحرية ماهية الشخص أم الضرورة؟
2- مطلب التحليل
جوابا على الإشكالية، يدفعنا السؤال إلى تبني أطروحة مفادها أن الحرية هي جوهر الشخص لا الضرورة، وفي هذا الإطار يمكن الاستئناس بتصور الفيلسوف الفرنسي الوجودي سارتر Jean Paul Sartre (1980-1905)، الذي يؤكد أن حرية الإنسان مطلقة، ولتوضيح موقفه يوظف جملة من المفاهيم وردت في العديد من مؤلفاته منها كتابه "الوجودية فلسفة إنسانية" حيث يضع تقابلا بين الموجود في ذاته (الأشياء)، والموجود لذاته Litre en soi (الشخص)، والإنسان باعتباره وجودا لذاته، وجوده سابق على ماهيته، إنه يوجد أولا ثم يختار ما يكون، وهذا الاختيار ليس ثابتا و لا نهائيا، بل يتجدد باستمرار، بتجدد وعي الفرد بذاته، وبالتالي فالإنسان غير قابل للتعريف، لأنه عندما يولد يكون لا شئ ، وسيكون ما سيصنعه بنفسه فيما بعد بحرية، لأن ماهية الإنسان في نظر سارتر هي الحرية، والماهية Essence هي الكنه والجوهر والحقيقة، لذلك فالحرية هي جوهر وحقيقة الإنسان، إنها قدره الذي لا يستطيع الفكاك منه، يقول: "الإنسان محكوم علية أن يكون حرا، ولا يمكنه أن يرفض هذه الحرية، لأنها حرية مطلقة"، هكذا يصبح رفض الحرية هو مظهر من مظاهرها، لأن الحرية la liberté هي استقلالية الذات فكرا وتصرفا، وعدم خضوعها لأية إكراهات، والقدرة على الفعل أو عدم الفعل إراديا دون تدخل شئ آخر غير الإرادة، ولا مجال إذن للحديث عن الضرورة La nécessité التي تعتبر نقيض الحرية ، وتعني مجموع الأسباب والعلل والإكراهات التي تحكم حياة الإنسان رغما عنه، وهذا قول مرفوض بالنسبة للفيلسوف سارتر، لأن التسليم بالضرورة يتعارض مع فكرة الإرادة الحرة عند الإنسان، وليقنعنا بوجهة نظره يقدم سارتر العديد من الأدلة والحجج المنطقية والواقعية، فالإنسان لا يتحدد ولا يتميز إلا بحريته، وكل تنازل عن هذه الحرية، يعني الانحطاط بالإنسان إلى مرتبة الأشياء، إن مصير الإنسان أن يحيا حرا، وهذا المصير هو ما يجعل منه "مشروعا" مشروعا Projet والمقصود بكون الإنسان مشروعا هو أنه يمتلك القدرة على موضعة ذاته في المستقبل والإلقاء بها في حضنه (Projet مشتقة من Projeter التي تعني الإلقاء في المستقبل)، إن عملية الإلقاء هذه تضع الإنسان أمام مجموعة من الخيارات المستقبلية، التي يمكنه أن يختار منها ما يشاء بحرية كاملة، وعليه بعد ذلك أن يتحمل مسؤولية اختياره، وبارتمائه الدائم نحو المستقبل وانفتاحه على عالم الممكنات، تكمن قدرته على تجاوز الوضعيات التي يواجهها والتعالي عنها نحو المستقبل، بفاعلية وإبداع، وإلا تحجر وأصبح شيئا من الأشياء، لذا فماهية الشخص لا توجد وراءه، بل توجد أمامه دائما كمشروع، وهو من يختارها بوعيه وإرادته وكفاحه وحريته المطلقة في أن يصنع بذاته ما يشاء، وبهذا المعنى يكون الشخص حرا في اختيار مصيره ومتحملا لمسؤولية اختياراته، فضلا عن الحجج التي تضمنتها القولة، كآلية التعريف "الحرية ماهية الشخص" ، وآلية النفي "لا الضرورة".
- لكن هل فعلا كما ورد في القولة وصرح سارتر أن الحرية ماهية الشخص لا الضرورة؟
3- مطلب المناقشة
غير خفي مدى القيمة الإنسانية والفلسفية والحقوقية، للتصور الذي يحتفي بالحرية الإنسانية، جاعلة منها الماهية المحددة للشخص، حيث اعتبرها الفيلسوف سارتر "قدرا إنسانيا لا فكاك منه" هي أساس المسؤولية، ولاشك أن الحرية من المفاهيم الفلسفية الأكثر جاذبية ووجدانية هي ملهمة الفلاسفة والأدباء والسياسيين، وشعار الحركات التحررية والمنظمات الحقوقية في العالم هي مطلب كوني باعتبارها غاية إنسانية سامية تنطوي على قيم أخلاقية واجتماعية وجمالية، لدرجة يمكن القول "إن الآخر المقابل للحرية ليس العبودية بل البشاعة والعبثية"، وهذ الموقف الذي يعلي من قيمة الحرية مؤيدوه كثر من بينهم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي يعتبر الحرية مسلمة بديهية للشخص كذات لعقل أخلاقي عملي، لأن مجال الأخلاق هو المجال الحقيقي للحرية ، فالإنسان بوصفه كائنا عاقلا، يستطيع تشريع قواعد أخلاقية عقلية، والعمل وفقها بكل حرية وإرادة، أي القيام بالواجب الأخلاقي، ولا معنى للفعل الأخلاقي في غياب الحرية، وبالتالي من العبث الحديث عن المسؤولية الأخلاقية مع التنكر للحرية المطلقة في الاختيار والفعل والحرية بالمعنى الكانطي تعني تحرر الإنسان من قبضة الطبيعية والأهواء، والعمل الإرادي الحر وفق الأمر المطلق "تصرف دائما على نحو تعامل بمقتضاه الإنسانية في شخص غيرك، كما في شخصك غاية لا مجرد وسيلة".
رغم وجاهة هذه التصورات التي تمجد الحرية الإنسانية، يجب الكشف عن ثغراتها ونقائصها، كما تلزمنا الفلسفة كتفكير عقلاني نقدي، لأن القول بالحرية المطلقة للشخص هو قفز على العديد من الضرورات والحتميات التي تمارس نوعا من الإكراه على الشخص، وهذا ما خلصت إليه أبحاث العلوم الإنسانية، من أن الإنسان يخضع لمجموعة من الشروط التي تفرض على وجوده حصارا محكم الحلقات، لا مجال معها للحديث عن الحرية، إذ بينت الدراسات الاجتماعية والأنثروبلوجية أن أغلب أفكار الإنسان وسلوكاته مفروضة عليه من خلال الثقافة والتنشئة الاجتماعية، ليصبح "الشخص " مجرد نتاج لبنيات وقواعد مؤسسية مختلفة تمارس عليه الإكراه من مختلف الأبعاد، سواء تعلق الأمر بالبنيات النفسية أو اللغوية أو المادية والاقتصادية من هنا فقد انتهت العلوم الإنسانية إلى التأكيد على أن وعي الشخص بذاته يشوبه الوهم ،والغرور، وتحدثت عن موته واختفائه وسط العديد من المحددات التي تشرطه وتحاصره، يكفي أن نشير مع مؤسس مدرسة التحليل النفسي إلى الحتميات اللاشعورية الخفية التي تحرك الإنسان وتوجه أفكاره وأفعاله.
إن هذا التصور الذي ينزع هالة الحرية عن الشخص نجده لذي العديد من الفلاسفة، وهاهو الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا يصرح أن حرية الإنسان تكمن في قبوله وخضوعه للضرورة التي تفرضها طبيعته وطبيعة الكون المحكوم بقوانين وحتميات، أما اعتقاد الإنسان أنه أسمى من الطبيعة وأنه حر طليق فهو مجرد وهم يقول: " وهم الإنسان بالحرية ناتج عن وعيه بأفعاله، وجهله بالأسباب المتحكمة فيه".
4- مطلب التركيب
يبدو أن الجدل الدائر حول حرية الشخص يزداد تأججا بين أطروحات ترى أن الحرية هي ماهية الإنسان، وتصورات على طرف النقيض تزعم أن الضرورة والحتمية هي مصير الإنسان، وأمام هذه الآراء المتضاربة والمتناقضة، ينتصب موقف المفكر المغربي محمد عزيز لحبابي (1993-1922) الذي يندرج ضمن الفلسفة الشخصانية، التي ترى أن القول بالحرية المطلقة ،وهم كما أن نفي الحرية عن الإنسان خطأ كبير، حيث يؤكد لحبابي أن القصدية هي ميزة الفعل الإنساني، بمعنى أن الإنسان يروم تحقيق مقاصد وأهداف وغايات واعية، وهذا يستلزم من الذات الإنسانية تفهم الشروط الموضوعية والوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك الفعل، وهذه القصدية الواعية هي التي تضفي طابع الحرية على الفعل الإنساني، وتبعده عن الأفعال الآلية الصادرة عن دوافع غريزية كما هو الشأن عند الحيوانات.
هكذا فالكائن الإنساني يسعى إلى "شخصنة" أفعاله بما هو ذات حرة، وذلك بالسعي نحو اكتساب صفات تمیزه کشخص وتضفي على أفعاله قيمة وغائية إنسانية، وبالتالي فإن الحرية نشاط معاش، أساسه الإبداع الذاتي والتواصل والانخراط داخل الجماعة، فالشخص لا يأخذ طريقه نحو الحرية إلا بفضل وعيه بحدود وشروط وضعه الواقعي، ومن تم فالحرية هي تشخصن مستمر أي تحرر مستمر وتجاوز للشروط الذاتية، الموضوعية والعلائقية، وانتصار على الضرورة، بمعنى أن الحرية هي "تحرّر مستمر" من الجهل والخرافة والأهواء والانفلات من قبضة الاستعباد الذكي الذي أصبح سمة الأزمنة المعاصرة باسم التكنولوجيا الذكية وضرورات الثقافة الاستهلاكية والغرق في الوجود الزائف، وهو ما ترفضه الفلسفة التي تتمرد على الوصاية والتبعية والخضوع والعبودية، وتنتصر لحرية الشخص.
إن الوجود العلائقي للشخص هو المختبر الحقيقي لحرية الشخص، مما يستدعي استحضار مفهوم الغير، وولوج مفارقات جديدة تواجه الشخص، لأن محاولة مقاربة الشخص هي في عمقها مقاربة للوجود الإنساني بكل مكوناته.
0 تعليقات