نموذج تحليل قولة فلسفية مجزوءة الاخلاق
" ليست سعادة الانسان في الحرية انما في القيام بالواجب "
ملاحظة « القولة مكونة من ثلاثة مفاهيم هي السعادة والحرية والواجب. وهي المفاهيم المكونة لمجزوءة الاخلاق ».
منهجية تحليل قولة فلسفية مجزوءة الاخلاق
مقدمة
تعتبر السعادة بالنسبة للإنسان، غاية في حد ذاتها، وكل ما عداها مجرد وسيلة لتحقيقها، لذلك فهو يطلبها دائما وفي كل مكان. إلا أن تصورات الناس للسعادة تختلف كثيرا، إلى حد أنه يمكن القول إن لكل واحد تصوره الخاص لها. من هنا السؤال عن محددات السعادة ومصدرها: هل كما توحي بذلك القولة، في القيام بالواجب، أم هي في التشبث بالحرية بما قد تحمله من إحالة إلى اللعب واللهو والمتعة؟
إذا كان جميع الناس يتفقون على كون السعادة هي غاية كل أفعال الإنسان، وأنها الكمال الحقيقي الذي يسعى إليه، فإن الأطروحة المتضمنة في القولة بمفاهيمها الثلاثة (السعادة، الحرية والواجب)، تطرح جملة من الأسئلة الإشكالية: فإذا كانت السعادة لا تتوقف عند الحرية، فهل يعني هذا أن الحرية لا تخلق السعادة لصاحبها؟ وإذا كانت السعادة تتحقق أثناء القيام بالواجب، فهل القيام بالواجب يحقق دائما السعادة؟ وهل السعادة والواجب يتناقضان مع الحرية؟
التحليل
تنطوي القولة على أطروحة مزدوجة، الأولى سلبية تفيد أن السعادة لا تحقق أو لا توجد في الحرية، أو على الأقل هي غير مشروطة بالحرية، والثانية إيجابية وتنص على ارتباط السعادة بالقيام بالواجب، أي أن سعادة الإنسان توجد فيما يقوم به من واجبات. والحال أن فكرة السعادة أبعد ما تكون عن الوضوح بسبب تباين المواقف الفلسفية منها. هناك من اعتبرها خيرا أسمى وغاية قصوى للكمال الإنساني، وهناك من اعتبرها تأملا عقليا مجردا ، هذا فضلا عن التمثلات الشائعة التي تعتبر السعادة معطى في التجربة الحسية المباشرة.
تربط القولة بين السعادة والواجب باعتبار السعادة فضيلة أخلاقية تجد كمالها في القيام بالواجب، الذي هو فعل إلزامي وإكراهي نقوم به احتراما للقانون الأخلاقي الذي يشرعه العقل. لكن الواجب، الذي هو مصدر السعادة هنا هو كذلك التزام عقلي حر. إن أساس الواجب يوجد في الحياة وقوانينها. إنه شعور وميل وقدرة طبيعية يملكها الفرد وبفضلها يتجه نحو التحقق بشكل طبيعي وبدون إكراهات. وإذن فالحرية ضرورية للقيام للواجب، وبالتالي لتحقيق سعادة الإنسان، مادام كل كائن عاقل هو كائن يتمتع بحرية الإرادة والقدرة على القيام بالفعل الأخلاقي.
لكن منطوق القولة واضح، فهي تنص على أن القيام بالواجب هو مصدر السعادة، وبالتالي فهي تراهن على إضفاء قيمة أسمى على الواجب لجعله محوراً للسعادة والحرية معا. وهذا ما تؤكده البنية الحجاجية المتضمنة في القولة، حيث يبرز في البداية الفصل بين السعادة والحرية باعتبار أن السعادة لا تتوقف على الحرية أو هي غير مشروطة بها. ثم اللجوء، بعد ذلك، إلى الربط بين السعادة والواجب، باعتبار أنه لا وجود للسعادة إلا في القيام بالواجب.
إن القول بأن السعادة توجد في القيام بالواجب هو قول يعلي من شأن الواجب دون التخلي عن الحرية، مادامت هذه الأخيرة لم تعد تعني أن نفعل ما نشاء، وإنما تعني فعل ما نريده، حسب ما تسمح به القوانين. فالقوانين وحدها هي التي تحدد ماهية الحرية وقيمتها.
المناقشة
إن نتيجة تحليل القولة، والتي تثبت أن السعادة توجد في القيام بالواجب، تقتضي منا إعادة النظر فيما تضمره هذه النتيجة وفيما يمكن أن يسندها أو يفندها من وجهات النظر أو المواقف الفلسفية الأخرى. لماذا؟ لأن النقاش الفلسفي حول مفهوم السعادة سيمكننا أولا من وضع المفهوم في مجاله الأخلاقي القيمي، بدلا من النظر إليه بوصفه طموحاً فرديا خاصا، وثانيا سيمكننا من إدراك لبسه رغم الاتفاق الحاصل حول قيمته وأهميته.
فما معنى القول إن السعادة توجد في القيام بالواجب؟ يشير الواجب هنا إلى ما يلزم الإنسان القيام به إزاء ذاته وإزاء غيره. فالواجب، كما يقول الفيلسوف آلان، هو أن نرغب في أن نكون سعداء، إذ "يجب على المرء أن يطلب سعادته وأن يصنعها". غير أن سعادة المرء هي أيضا واجب تجاه الغير، لأن "السعادة التي نحصل عليها من أجل ذاتنا، هي الهدية الأجمل والأكثر سخاء التي يمكن إهداؤها للغير" (آلان).
لكن كيف يمكنني إسعاد الآخرين مادام ذلك واجباً؟ علينا أن نضع السعادة غاية في مجال العلاقات الإنسانية، باعتبارها ليست مجرد إحساس داخلي أو امتلاك لموضوع مادي، بل بوصفها واجبا اتجاه الغير الذي نعمل على فهمه والتقرب منه؛ فالسعادة، كما يقول الفيلسوف راسل، تعتمد على ما يسمى بالاهتمام الودي بالأشخاص والأشياء. يقتضي واجب السعادة إذن أن نجعل منها غاية داخل العلاقات الإنسانية، وموجها لتصرفات الذات نحو نفسها وغيرها. إن الاهتمام والتعبير الودي للتعرف على الغير، وفهم تفرده وخصوصيته، قد يشكلان مصدر سعادة الغير وبالتالي تحقيق سعادة الذات.
إذا كانت السعادة تتحقق أثناء القيام بالواجب، كما تنص على ذلك القولة، فهل القيام بالواجب يحقق السعادة دائما؟ لابد هنا من توضيح إضافي بخصوص الواجب. فالإنسان هو فرد داخل الجماعة، يتأثر بها ويؤثر فيها، يأخذ عنها قيمها وتصوراتها الأخلاقية، بل قد يكون وعيه الأخلاقي مجرد صدى للوعي الجماعي. ومن ثم فإن المجتمع هو الذي يحدد الواجبات ويرسخها ويعمل بقوة على حفظها. وكلما كان الفرد منسجما مع قيم المجتمع، كلما أحس بالاطمئنان والغبطة، بل وبالسعادة. وقد يكون طموح الإنسان أوسع من ذلك بحيث يسعى إلى تحقيق واجبات إنسانية كبرى، يجد فيها ذاته وسعادته، مثل التطوع لتقديم خدمات إنسانية أو المساهمة في توطيد العلاقات السلمية بين المجتمعات.
لكن هل السعادة والواجب يتناقضان مع الحرية؟ هل أكون سعيدا وأنا فاقد حريتي؟ ينبغي هنا كذلك توضيح علاقة السعادة بالحرية، قبل الوصول إلى جواب نهائي. فالحرية لا تعني دائما عدم الوقوع في القيود المادية، والحر ليس دائما خارج السجن، بل إن الحرية قد تأخذ معنى التجربة الداخلية، يعيشها الفرد ويشعر بها رغم خضوعه للإكراه أو الإلزام. وبهذا المعنى يمكن القول إن الحرية هي بدورها توجد في القيام بالواجب الذي أشعر به داخليا وأجعله بمثابة قانون. وبهذا المعنى أيضا يكون الواجب، كما يقول كانط التزاما عقليا حرا، أو بعبارة متناقضة في الظاهر الواجب إكراه حر.
صحيح إذن أن السعادة توجد في الواجب، من حيث هي واجب نحو الغير ورغبة في اسعاده، وهي كذلك التزام - أي إكراه حر - بتحقيق السعادة الداخلية للذات، وذلك بفضل الإرادة التي تميز الكائن الإنساني العاقل، بوصفه كائناً حراً له القدرة على القيام بالفعل الأخلاقي.
التركيب
من الواضح إذن أن تحليل ومناقشة مضمون القولة، قادنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة حول علاقة السعادة بالواجب والحرية، وكيف نجعل السعادة قيمة أخلاقية توجه العلاقات الإنسانية، بدل اعتبارها رغبة تسجن الفرد داخل أنانية مفرطة؛ وهل بالإمكان العمل على إسعاد الغير بدون تضحية تدمر الذات وتفقدها إقبالها على الحياة والاستمتاع بها. وقد انتهى التحليل إلى إثبات هو بمثابة محور أو إطار أخلاقي تدور حوله السعادة والحرية، فلا وجود للسعادة ولا وجود للحرية في غياب فكرة الواجب، التي تعطي المعنى للفعل الإنساني سواء كان داخلياً أو خارجيا. وقد بينت المناقشة مدى ارتباط السعادة بالواجب، وهو ارتباط أخلاقي محكوم بالقواعد المعيارية التي تنظم سلوكات الإنسان، بهدف اكسابها قيما إيجابية تطلب لذاتها.
المصدر كتاب top philosophie الثانية باكالوريا
0 تعليقات