نص ايمانويل كانط حول المحور الثاني الشخص بوصفه قيمة
"يعتبر الإنسان داخل نظام الطبيعة .. كائناً غير ذي أهمية قصوى، ذلك أنه يمتلك مع مجموع الحيوانات الأخرى .. قيمة مبتذلة. لكن فضلاً عن امتلاكه ملكة الفهم - التي جعلته يسمو على الكائنات الأخرى - وكونه قادراً على تحديد غايات لنفسه، فإنه لا يكتسب بذلك إلا قيمة خارجية ذات منفعة، هذا على الرغم من كوننا قادرين أن نفضل هذا الإنسان عن ذاك، وكأننا أمام تجارة للبشر، الأمر الذي يؤدي بنا إلى القول إن الإنسان يقوم بسعر وكأنه بضاعة.
لكن عندما نعتبره شخصاً، أي بوصفه ذاتاً لعقل أخلاقي عملي، سنجده يتجاوز كل سعر، وبالفعل لا يمكن أن نقدره فقط بوصفه كذلك أي بوصفه شيئاً في ذاته - كوسيلة لتحقيق غايات الآخرين أو وسيلة لتحقيق غاياته الخاصة، بل يمكن تقديره بوصفه غاية في ذاته، وهذا يعني أنه يمتلك كرامة، وهي (قيمة داخلية مطلقة)، وبامتلاكه لهذه القيمة يرغم كل الكائنات العاقلة الأخرى على احترام ذاته.. إن هذا الاحترام للذات إذن هو واجب على كل إنسان تجاه نفسه".
المصدر: النص للفيلسوف الألماني كانط من كتاب "أسس ميتافيزيقا الأخلاق"
نموذج مصحح نص فلسفي قيمة الشخص
مطلب الفهم
يجد الشخص نفسه في وضع بشري لا تنتهي مآزقه، بدءًا ببؤرة الهوية الشخصية، وما تحمله من معضلات وما تنطوي عليه من إحراجات ورهانات، أكبرها وأخطرها مسألة الشخص بوصفه قيمة، سيما وأننا خلصنا إلى أن الهوية تتسم بالنسبية والتنوع، وهي خلاصة ستكون لها تداعيات على البعد القيمي للوجود الإنساني، باعتباره بنية مركبة تتميز بالتعقيد والتشابك بين الذاتي والموضوعي، الفردي والعلائقي، وهو ما يعمق المفارقات المرتبطة بقيمة الشخص، سيما ونحن نعيش اليوم أزمنة الاتجار في البشر والجرائم ضد الإنسانية بالحروب والتعذيب والاستغلال، إنه إشكال مؤرق يسائل توقعات قيمة الإنسان والكرامة الإنسانية وضرورة احترام الكائن الإنساني باعتباره غاية الغايات وواقعه كوسيلة رخيصة وأداة بئيسة في عالم لم يعد يكترث بالقيم، مما يدفعنا إلى بسط الإشكالية الآتية:
أين تكمن قيمة الشخص؟ ما طبيعة قيمة الشخص: هل هو غاية أم وسيلة؟ ومن أين يكتسب بعده القيمي: هل باعتباره كائناً عاقلاً أم لكونه ذاتاً أخلاقية؟ وهل تنحصر قيمة الشخص في بعده الأخلاقي أم في بعده العلائقي أم في أبعاد أخرى؟
تجدر الإشارة أن النص يعمق الإشكالية بتساؤلات ضمنية من قبيل:
- ما الشخص؟
- ما القيمة؟
- وما الكرامة؟
- وهل فعلاً أن العقل الأخلاقي هو ما يمنح للشخص قيمة ويجعله غاية لا وسيلة؟
مطلب التحليل
جواباً على الإشكالية، تقدم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بأطروحة مفادها أن الشخص ذات لعقل عملي أخلاقي، يمتلك كرامة مطلقة، بمعنى أن الشخص غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة تستخدمها أهواء الغير، مما يستوجب احترامه ومراعاة كرامته، والتصرف وفق الأمر الأخلاقي المطلق. ولتوضيح موقفه، وظف كانط جملة من المفاهيم شكلت الإطار النظري لتصوره، حيث عرف الشخص بأنه ذات لعقل أخلاقي عملي، وبالتالي يتجاوز كل سعر أو محاولة للتبضيع والتسليع، وهنا تبرز قيمته المطلقة. وإذا كانت القيمة valeur هي ما تقوم به الذات أو الموضوع، أي الصفة والخاصية التي تمنح الحظوة والتقدير لوجود الرغبة تجاه المرغوب فيه، فإن هذا التقدير قد يكون ظرفياً نسبياً، كما هو الشأن بالنسبة للموضوعات (الوسائل) وقد تكون مطلقة عندما نتحدث عن قيمة الشخص (الغاية)، ليصل الفيلسوف إلى الحجر الأساس الضامن لثبات هذه القيمة انطلاقاً من مفهوم الكرامة الإنسانية التي تعتبر قيمة القيم: "تصرف دائماً على نحو تعامل بمقتضاه الإنسانية في شخص غيرك كما في شخصك". وهذا معنى الأمر المطلق الذي يتسم بالكونية والإطلاقية، هو مبدأ أخلاقي قطعي، يجب الالتزام به في كل الحالات، لأن الشخص الواحد يختزل الإنسانية جمعاء.
لكن كيف دافع الفيلسوف عن وجهة نظره؟
لإقناعنا بدعواه، استخدم كانط مرافعة ضمت مجموعة من الأساليب الحجاجية. استهلها بآلية المقارنة بين الإنسان كجزء من الطبيعة وباقي كائناتها، مشيراً أنه لا يكتسي إلا قيمة هشة مبتذلة: "يعتبر الإنسان داخل نظام الطبيعة كائناً غير ذي أهمية قصوى، ذلك أنه يمتلك مع مجموع الحيوانات الأخرى قيمة مبتذلة". مستدركاً أن اتسام الإنسان بالعقل هو ما جعله يسمو على باقي الكائنات: "لكن فضلاً عن امتلاكه ملكة الفهم - التي جعلته يسمو على الكائنات الأخرى". غير أن ملكة الفهم (العقل) لم تمنحه سوى قيمة خارجية نفعية، بحيث أصبحت ذاته تقوم بسعر، وبالتالي يخضع لمنطق التسليع والتبضيع والعبودية: "فإنه لا يكتسب بذلك إلا قيمة خارجية ذات منفعة.. وكأننا أمام تجارة للبشر، الأمر الذي يؤدي.. الإنسان يقوم بسعر وكأنه بضاعة". متوسلاً بآلية النفي في الكثير من الأحيان، رافضاً تسعير وتشييء الإنسان: "لا يمكن أن تقدره فقط كوسيلة لتحقيق غايات الآخرين.. أو غاياته الخاصة"، ضارباً عرض الحائط بهذا التصور الأداتي للإنسان، مؤكداً أن ما يمنح الشخص قيمة هو كونه غاية في ذاته: "بل يمكن تقديره بوصفه غاية في ذاته، وهذا يعني أنه يمتلك كرامة". والكرامة الإنسانية قيمة مطلقة، بل هي قيمة القيم، لأنها ترغم جميع الكائنات على احترامه. ليتوج النص باستنتاج مفاده وجوب معاملة الذات الإنسانية بمقتضى: "إن هذا الاحترام للذات إذن هو واجب على كل إنسان تجاه نفسه".
- إذا كان كانط يرفض التصورات التي تختزل الشخص في بعده الطبيعي أو العقلي، وينص في المقابل على أن ما يمنح الشخص قيمة هو ذاته الأخلاقية، فإلى أي حد يمكن القبول بهذا التصور كحل للإشكالية؟
مطلب المناقشة
لا نجانب الصواب إذا قلنا إن أطروحة كانط التي أسست قيمة الشخص على الذات الواعية الأخلاقية، تكتسي قيمة أخلاقية حقوقية وفلسفية، لكونها تناهض الخطابات التي تحط من قيمة الإنسان وكرامته. سيما أنه عايش غروب العقلانية الغربية التي دافع عنها ديكارت، والتي أساءت أوروبا آنذاك توظيفها في حملات استعمارية، وقتل واستعباد العديد من البشر بدعوى أنهم بدائيون متوحشون لا يمتلكون العقل، يجوز معاملتهم كأشياء من أشياء الطبيعة. مما جعل كانط يحصن العقل الديكارتي بالأخلاق، ليصبح عقلاً عملياً أخلاقياً بمقتضاه يكون الشخص غاية مطلقة، ملزماً باحترام ذاته واحترام الغير، بمعنى احترام الإنسان لا احتقاره واستغلاله. وهو ما تعانيه البشرية اليوم من عنف وقمع وحروب ومجاعات وآلام، حيث أصبح الإنسان مجرد أداة وسلعة رخيصة وليس غاية تمتلك قيمة مطلقة.
وهذا التصور الفلسفي الأخلاقي نجد له شبيهاً لدى الفيلسوف الفرنسي المعاصر إيمانويل مونييه، الذي ينتمي إلى الفلسفة الشخصانية التي تعلي من قيمة الشخص وتجعل منه غاية في ذاته، حيث يؤكد أن الشخص يتميز بالوعي والإرادة والتجاوز (التشخصن)، بخلاف الأشياء التي لا وعي لها ولا إرادة.
لكن هل فعلاً أن ما يمنح للشخص قيمة هو كونه ذاتاً واعية أخلاقية؟
لا يشاطر الفيلسوف الأمريكي طوم ريغان التصور الكانطي لقيمة الشخص، بحصرها في الذات الواعية الأخلاقية، وتخصيصها وحدها بالاحترام. إذ يعتبر ريغان أن هذا الموقف الكانطي غير أخلاقي، لأنه ينزع صفة الشخص عن الأشخاص المعاقين والمجانين والأطفال والمرضى الذين دخلوا في حالة الغيبوبة الدائمة، هؤلاء يظلون بشراً، لكنهم ليسوا أشخاصاً وفق التعريف الكانطي، لا نصيب لهم في الاحترام، في حين أن قيمة الشخص حسب طوم ريغان تشمل كل الكائنات التي تستشعر الحياة. وهذا التصور يتمتع اليوم براهنية كبيرة، لكونه أيقظ في البشرية قيمة الحياة وخطورة التمركز على الذات واختزال مفهوم القيمة في الشخص الإنساني، مما أفضى إلى استنزاف وتخريب الحياة الإيكولوجية، وتفاقم الكوارث البيئية واستفحال المجاعات والاقتتال على الموارد الطبيعية، والنتيجة انحطاط أكبر لقيمة الإنسان.
من جانبه، يرى الفيلسوف جورج غوسدورف أن قيمة الشخص لا تكمن في مفهوم الفرد المنعزل والمستقل بذاته، كما تجسدت في الفلسفة الحديثة من خلال الذات المفكرة (ديكارت) أو الذات الأخلاقية (كانط)، هي فكرة مثالية لا تستقيم مع الوجود الواقعي للإنسان، لأن الوجود الإنساني ليس وجود عزلة وانفراد واستكفاء وهمي، وبالتالي فقيمة الشخص تتجلى في مفهوم الشخص الأخلاقي لا مفهوم الفرد، والقيمة الأخلاقية للشخص تتجسد من خلال الانفتاح على الغير واستقباله عبر أشكال التضامن والمشاركة والقدرة على الانفتاح والعيش المشترك، والقدرة على التعاون الإنساني.
وهذا التصور سيعمقه الفيلسوف الأمريكي جون راولز الذي يرى أن الشخص يستمد قيمته من اعتباره مواطناً قادراً على المشاركة والتأثير في مختلف مجالات الحياة وميادينها، واحترام الحقوق والواجبات. في ظل ديمقراطية تجعل من المواطنين أشخاصاً أحراراً يتوفرون على كفاءات أخلاقية وعقلية تمنحهم عضوية كاملة داخل المجتمع، وهذه العضوية القائمة على التعاون، تدفع الأشخاص إلى امتلاك حس للعدالة وتصور معين للخير يساعد على تحقيق العدالة والإنصاف للجميع، يقول: "الشخص هو ذلك الكائن القادر على المشاركة في الحياة الاجتماعية.. واحترام مختلف الحقوق والواجبات".
مطلب التركيب
يتضح من خلال عمليتي التحليل والمناقشة أن محاولة الإجابة عما يحدد قيمة الشخص، أفضى إلى اختلاف وتنوع في وجهات نظر الفلاسفة. فمنهم من رأى أن قيمة الشخص تكمن في ذاته الأخلاقية، ومنهم اعتبرها تستمد من وعيه وحريته وتشخصنه، ومنهم من اعتبر أن استشعار الحياة هو القيمة الأصلية للشخص، وآخرون ربطوا قيمة الشخص ببعده العلائقي وقدرته على الانفتاح على الآخرين وامتثاله للواجب كمواطن فاعل قادر على المشاركة في الحياة الاجتماعية والتأثير في مختلف مجالاتها. وهو اختلاف يجد تفسيره في طبيعة المنطلقات الفكرية لكل منظور. بيد أن الرهان العميق لموضوع قيمة الشخص هو أهمية يقظة الضمير الإنساني تجاه مظاهر العبودية المعاصرة وسحق كرامة الإنسان لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية أو رغبة مرضية في قهر البشر.
خلاصة القول إن التفكير الفلسفي يرفع من قيمة الشخص ويعتبره غاية الغايات، وقيمة القيم، مع ضرورة التقاط الرسائل الفلسفية المركزية بضرورة التعامل الأخلاقي مع الشخص كغاية وليس وسيلة. وهذه هي عملية تشخصن مستمرة مما يجعلها نسبية في سيرورة وصيرورة دائمة تزداد بالانفتاح على الغير، التضامن والمشاركة والالتزام الأخلاقي. كما لا ينبغي نزع القيمة عن الأشخاص بتبريرات جاهزة، لأن الانتماء إلى الإنسانية هو ما يمنح للشخص قيمة.
0 تعليقات