قولة فلسفية من الامتحان الوطني 2021 الشعب العلمية
" لم اسمع قط عن أي نظرية كبرى طرحت على أساس من التجربة فحسب، فالنظرية هي التي تأتي أولا."
انطلاقا من القولة، بين(ي) هل الأولوية في بناء المعرفة العلمية تكون، بالضرورة، للنظرية.
نموذج تحليل ومناقشة قولة فلسفية حول مفهوم النظرية والتجربة
نموذج لورقة تحرير تلميذ حاصل على 20/20 مادة الفلسفة مسلك علوم رياضية أ
مطلب الفهم : مقدمة
يتميز الانسان عن الكائنات الأخرى بكونه لا يكتفي بأن يعيش ويكون موجودا فقط بل يسعى أكثر من ذلك الى محاولة فهم هذا الوجود في كل أبعاده، ذلك لكونه كائنا ممتلكا لملكة المعرفة، والمعرفة من حيث التعريف هي ذلك النشاط او تلك الفعالية العقلية التي تمارسها الذات العارفة بطريقة منظمة من أجل الوصول الى موضوع المعرفة وفهمه وادراكه. ويتميز موضوع المعرفة باعتباره مبحثا فلسفيا قضايا كثيرة للنقاش من بينها تلك المتعلقة بالنظرية. فالعالم حينما ينجز معرفة بظاهرة ما او واقعة ما فهو يستطيع بعد حصول الفهم والادراك بناء نظرية علمية، ان النظرية العلمية هي ذلك البناء او النسق من الأفكار المترابطة والمنظمة حول ظاهرة ما والتي تمكن من وصف هذه الظاهرة أو تفسيرها او التنبؤ بها. ومن بين أهم القضايا التي يثيرها مفهوم النظرية ذلك المتعلق بكيفية بناءها، خصوصا ان النظريات العلمية التي يكون موضوعها الطبيعة تتأرجح بين عنصرين اثنين وهما العقل والواقع مما يدفعنا للتساؤل.
فكيف تبنى النظريات العلمية اذن؟ هل بالاعتماد على المنهج التجريبي؟ ام على العقل الرياضي الخالص؟ أم انها تبنى بتكاملها؟
مطلب التحليل
يتضح من الاشكال أعلاه ان منطوق القولة يذهب الى تبني أطروحة جوهرية مفادها أن كل النظريات العلمية تبنى من خلال اِعمال العقل وليس التجربة، مما يعني ان تفسير الظواهر العلمية يكون بالتماسك المنطقي والخلو من التناقض، فهل مشكلات الفيزياء النظرية يتجه اتجاه كلي نحو اعطاء القيمة والأسبقية للعقل على حساب التجربة، حيث ينبغي اعداد صيغة النظرية بالاعتماد على العقل الرياضي الخالص وليس التجربة، ومن هنا يتضح أنه لبناء النظرية يمكن الاِعتماد على العقل الرياضي الخالص.
ولشرح هذه الأطروحة المتضمنة في القولة يمكن الاعتماد على بنية مفاهمية متماسكة أبرزها مفهوم النظرية وهي ذلك البناء او الشق من الأفكار والمترابطة والمنظمة حول ظاهرة ما من أجل تفسير هذه الظاهرة او شرحها او التنبؤ بها، أما مفهوم التجربة فهي ناتجة عن الممارسة الانسانية تلك الممارسة التي تتحدد من خلالها علاقة الانسان بواقعه ومحيطه، فالعلاقة الموجودة بين هذان المفهومان هي علاقة ترابط كون أن التجربة رغم أنها مهملة أمام العقل في بناء النظرية العلمية فهي تظل مرجع لها.
ولتأكيد الأطروحة المتضمنة في القولة يمكن الاعتماد على مجموعة من الحجج الواقعية أهمها بعض الظواهر العلمية التي تطرأ في هذا الكون مثل حركات الكواكب والمجرات فهذه الاخيرة لا يمكن بتاتا ولا بأي شكل من الأشكال اخضاع للتجربة والمختبر، وايضا الظواهر الميكروسكوبية المتناهية في الصغر كالذرات والدقائق التي من المستحيل ملاحظتها، ونفس الشيئ بالنسبة لمجموعة من القضايا والمستجدات العلمية كسرعة الضوء مثلا، فمع هذه الظواهر، تبقى التجربة عاجزة على التعامل معها وتفسيرها.
قيمة وحدود الاطروحة
تكمن قيمة وأهمية هذه الأطروحة كون أن العقل هو أساس بناء العديد من النظريات التي تستدعي الاستدلال والبرهنة، هذه النظريات هي نفسها التي بدأ معها المنهج التجريبي قاصرا على تفسيرها، وبالفعل فاذا استحضرنا مثلا تلك الظواهر الماكروسكوبية المتناهية في الكبر كالمجرات وأيضا الظواهر الميكروسكوبية المتناهية في الصغر فهي لا يمكن اخضاعها للتجريب العلمي داخل المختبر بأي شكل من الأشكال، وهناك أيضا مجموعة من المستجدات العلمية كسرعة الضوء فهذه الظاهرة لا تتطلب منهج تجريبي وانما تستدعي برهان عقلي منطقي خالص وذلك من خلال اِعمال العقل الرياضي الخالص. غير انه ورغم ذلك لا يمكن ان ننكر أهمية التجربة في بناء المعرفة العلمية باعتبارها تمثل الى حد يومنا هذا مرجعا أساسيا لها خصوصا في العلوم التجريبية لأن هناك حقائق لا يمكن اِثباتها نظريا والا ستظل معرفة ميتافيزيقية.
فالى اي حد يعتبر المنهج العقلي أساسا لبناء النظرية؟ الا يمكن اعتبار التكامل بين العقل والواقع أساسا لبناء المعرفة العلمية؟ او الا يمكن اعتبار خطوات المنهج التجريبي كفيلة بهذا البناء ؟
مطلب المناقشة: مواقف الفلاسفة
فالتطورات التي عرفها العلم مطلع القرن 19م اجبرت العلماء على مراجعة التصور الكلاسيكي سواء التجريبي او العقلانية. واتجه بعض منهم نحو تأسيس عقلانية علمية جديدة ترتكز على الجمع بين المنهج التجريبي والمنهج العقلاني في بناء النظريات العلمية دون الاقتصار على أحدهما في غياب الاخر، ومن بين هؤلاء العلماء نجد الفيلسوف غاستون باشلار الذي ينتقد النزعة الوثوقية في الفلسفة العقلانية الكلاسيكية التي تتق في العقل وتعتبره منبع كل النظريات العلمية، ويؤكد باشلار خلافا لذلك أن النظريات العلمية المعاصرة تتأسس على حوار وتكامل ضروري بين العقل والتجربة العلمية لأن التجربة العلمية هي تجربة معقلنة لا يمكنها الاستغناء عن العقل الرياضي الخالص، وهو نفس الاتجاه الذي ذهب اليه الفيلسوف روني طوم الذي يعتقد أن أساس النظرية العلمية هو أساس عقلي، وبذلك فهو يتجاوز التجربة في صيغتها الكلاسيكية، وبالمقابل يعطي الأهمية للخيال باعتباره مرتبط بايداع العقل ويتعزز موقف روني طوم بكونه عالم رياضيات من جهة، ومعاصر لمجموعة من المستجدات من جهة أخرى. وهذه المستجدات يقصد بها بالخصوص العلوم الدقيقة حيث أصبح العالم يتعامل مع ظواهر يبدو من المستحيل ملاحظتها، فهذه الظواهر بدا معها المنهجان الكلاسيكيان عاجزان عن التعامل معها، وبالتالي أصبح العالم مطالب بمنهج اخر عصري مرتبط بأدوات العقل دون التقيد بمعطيات الواقع، اذن فلبناء النظريات العلمية يجب الاعتماد على تجربة ذهنية متخلدة.
وفي مقابل ذلك يعتقد الفيلسوف كلود برنار أن بناء النظرية العلمية يتطلب تفاعلا بين العقل والواقع التجريبي، غير أن هذا الأخير هو الذي يلعب الدور الحاسم في عملية البناء، فبالاستناد الى خطوات المنهج التجريبي يبدو التكامل بين السلوك العقلي والمعطيات الحسية واضحا، ما دامت هناك خطوتان واقعيتان (الملاحظة والتجربة) وخطوتان عقليتان (الفرضية والاستنتاج)، ويؤكد برنار على أن العلاقة بين المعطيات الحسية والانشطة العقلية متداخلة الى حد أنها تشكل خليطا غامضا يصعب الفصل بين مكوناته، كما يميز كلود برنار بين الأفكار العلمية التي يمكن من خلالها بناء النظرية العلمية والأفكار الغير علمية التي تظل مجرد تصورات، وتتمثل الأولى في تلك الأفكار التي تثبتها وتصادق عليها التجارب العلمية، اذن يستنتج كلود برنار ان النظرية ليست شيئا عدا الفكرة العلمية المراقبة من طرف التجربة، فمن خلال هذا القول يتضح أن كلود برنار ينتصر للموقف التجريبي بتأكيد أهميته وأولويته في بناء النسق النظري المعرفي.
خلاصة تركيبية
يتضح من خلال ما سبق أن التجريب له أهمية في بناء المعرفة العلمية، الا أن الفيزياء المعاصرة تجاوزت المنهج الكلاسيكي للواقع التجريبي الذي لم يعد ذلك الواقع المعطى المباشر الخاضع للتجريب، وانما اصبح واقعا عقليا تلعب فيه الذات العاقلة بمعناها الابستمولوجي دورا اساسيا، فالتجربة اذن لم تعد هي معيار الصدق أو الكذب للنظريات المعاصرة، لأن النظريات المعاصرة هي انشاءات عقلية حرة، ورغم ذلك فالمنهج التجريبي يمثل مرجعا للنظريات العلمية وهو ما يعني استمرار التكامل بين الفكر والواقع لبناء النظرية، فالنظرية تستدعي التجريب والتجريب يطور النظرية باعتباره منهجا لمسألة الظواهر الطبيعية ويهدف الى التحقق من الافتراضات التي يبنيها العالم والخضوع الى قوانينها.
ومن وجهة نظري فأنا أقر بأن بناء النظريات العلمية يتطلب المزاوجة بين ما هو عقلي منطقي وأيضا ما هو اختباري تجريبي لأن عالمنا هذا يخضع باستمرار لعدة تغيرات، فالعلم محكوم بالتطور والتقدم لذلك لا بد من المزج بين الفكر والواقع وذلك من أجل تفسير كل الظواهر والمستجدات المتجددة بتجدد العلم وتقدمه.
0 تعليقات