تحليل ومناقشة سؤال فلسفي حول مفهومي الدولة والعنف مجزوءة السياسة
هل يجوز للدولة استعمال العنف ؟
موضوع فلسفي حول مجزوءة السياسة
المقدمة
يرتبط مفهوم الدولة عادة بمجموعة من المفاهيم التي تحيل على العنف، مثل التسلط والهيمنة والتحكم. والحال أن الدولة عبارة عن مؤسسات سياسية وقانونية وإدارية واقتصادية وعسكرية، وممارسة العنف لا ترتبط، ظاهريا على الأقل، إلا بالمؤسسة العسكرية أو المؤسسات الشبيهة بها. ويتعلق السؤال المطروح بمفهومين أساسيين من مجزوءة السياسة، هما الدولة والعنف: ما علاقة الدولة بالعنف؟ هل يجوز للدولة استعمال العنف؟
يتضمن هذا السؤال فكرة مؤداها أن الدولة تستعمل العنف تلقائيا في أوضاع وظروف معينة، وفي نفس الوقت يشكك السؤال في مشروعية العنف الصادر عن الدولة. فإذا كانت الدولة تستعمل العنف، وهي تمارس سلطاتها، فمن أين تستمد الشرعية؟ هل هناك عنف مشروع وعنف غير مشروع؟ وهل يجوز للدولة أن تلجأ إلى استعمال العنف؟
التحليل
يحس كل واحد منا أنه يعيش تحت رحمة " الدولة "، أي تحت سلطتها، فهي حاضرة بمؤسساتها وبقوانينها، بشرطتها وبعسكرها، إنها منبع جميع السلطات. والسؤال عن حق الدولة في ممارسة العنف، وشرعية هذا العنف، هو سؤال نابع من طبيعة الدولة والغايات المرسومة لها. فالغاية من تأسيس الدولة، كما بين ذلك اسبينوزا، هي تحرير الإنسان من العنف والخوف، لتجعل منه كائنا يتمتع بجميع قواه الطبيعية، الجسمية والفكرية، وأن يستخدم عقله بكل حرية ويعيش في أمان، لكن شريطة أن لا يتصرف ضد سلطتها.
والحالة هذه نجد أن الدولة، بوصفها جهازا إداريا وقانونيا وأخلاقيا مستقلا عن الأفراد، يسعى إلى الهيمنة لضمان استمرار ممارسة السلطة. وبهذا المعنى تصبح الدولة، في مقابل المجتمع المدني الذي يهتم بخدمة مصالح الأفراد، تركيبا عقليا مجردان من أي إرادة عامة عقلية، حرة وكلية كما بين هيغل. ومن تم بروز النزعة الشمولية إلى الهيمنة والسيطرة على كل شيء، الأمر الذي ينتهي بالدولة إلى أن تصبح دولة متسلطة وعنيفة.
إن الدولة لا يمكن أن تستمد شرعيتها من العنف، غير أنها تعمل على إضفاء المشروعية على العنف الذي تمارسه إزاء الرافضين لها من المتمردين والثوريين. إن الدولة في كثير من ممارساتها، تكون ضد مصلحة مواطنيها، فالتوسع البيروقراطي لأجهزتها، وتعقد بنياتها التقنية والمؤسساتية، جعلها تتحول من جهاز يحمي مصالح الناس ويسهر على حرياتهم الفردية والجماعية، إلى جهاز غريب عنهم.
وقد بين ماكس فيبر أن الدولة سواء كانت حديثة أو قديمة، ديمقراطية أو استدادية، لا يمكنها أن تستغني عن العنف، فوظيفتها الأساسية هي ممارسة العنف الشرعي والمنظم بقوانين وإجراءات صارمة. ومن ثم فإن "الدولة تعتبر المصدر الوحيد للحق في ممارسة العنف" (فيبر).
لكن هل يوجد عنف مشروع؟ هل يمكن تبرير ممارسة العنف إلى حد جعله حقا من الحقوق ؟ لقد ارتبط العنف بتاريخ البشرية، وهناك عدة تأويلات في هذا الصدد. فالإنسان حسب فرويد عدواني وشرس، والحضارة بكل ما يميزها من إنجازات ثقافية، لم يكن بمقدورها سوى كبح أو تأجيل شهوات العنف دون القضاء عليها. وكلما قامت الجماعات البشرية بإلغاء الزجر أو التراخي في تطبيق القواعد، كلما عاد العنف إلى الظهور بقوة، خاصة في فترات الحرب. وقد كشف فرويد في كتاب "أفكار لأزمنة الحرب والموت" كيف أن العنف يتحول إلى قوة إيجابية، حين يقود إلى نشأة الحق، باعتباره قوة الجماعة. فالحق والعنف ليسا نقيضين، بل إن النظرة التاريخية تكشف أن الواحد منهما قد نشأ عن الثاني؛ بل إن التصور الماركسي يذهب، أكثر من ذلك، إلى اعتبار أن العنف يشكل مرحلة أساسية في التاريخ، هي مرحلة "الصراع الطبقي" بوصفه سمة للحالة الاجتماعية التي أفسدها الاستئثار بوسائل الإنتاج. وقد بين انغلز كيف يلعب العنف دورا حاسما في التطور الاقتصادي للشعوب. فالعنف الاقتصادي هو الذي يحدد العنف السياسي ويوجهه. لكن رغم هذه التأويلات المتعددة للعنف، فإن هذا الأخير، بسبب طبيعته العنيفة وتعارضه مع الفكر يبقى بلا معنى. ومن الصعب تبرير العنف وإعطاؤه المشروعية نظرا لما يترتب عنه من آثار مادية ومعنوية غير مقبولة من العقل. إن العنف، كما تقول أرندت، ذو طبيعة "أداتية"، فهو دائما موجه للاستعمال، يحطم كل سلطة متوافق عليها، وبالتالي يحطم شروط إمكان قيام الجماعة.
المناقشة
قادنا تحليل المشكل المطروح إلى استنتاج أنه رغم لا مشروعية العنف وافتقاره إلى المعنى فإن الدولة تمارسه كحق منظم ومقنن للحد من العنف الذي يهدد تماسك الجماعة البشرية وتطورها. لكن كيف يمكن تقنين العنف وتنظيمه والتحكم فيه؟ كيف يمكن للعنف السياسي أن يصبح عنفا مشروعا؟ هل يمكن مواجهة عنف الدولة بعنف مضاد؟
يعتبر مجال السياسة مجال صراع بين الأفراد والجماعات، لذلك يجد رجل السياسة، أو رئيس الدولة، نفسه مضطرا إلى استخدام كل الوسائل المتاحة للتغلب على خصومه وبلوغ غايته، بمعنى أن عليه أن يستخدم الوسائل المشروعة وغير المشروعة. وقد تميز مكيافيلي بتبرير عنف الدولة وإعطائه المشروعية، فهو إذ ينبه الأمير إلى وجود طريقتين للقتال الأولى تعتمد القوانين والثانية تعتمد القوة، فإنه ينصحه باستخدام الطريقة الثانية، ما دامت الأولى غير كافية، "على الأمير أن يعلم جيدا كيف يتصرف كالحيوان؛ عليه أن يقلد الثعلب والأسد في نفس الآن". يتسم التبرير الماكيافيلي للعنف بالواقعية والبراغماتية السياسية، فالمحافظة على وحدة المجتمع وتماسكه تقتضي استخدام العنف ضد من يهدد تلك الوحدة.
لكن هل العنف الثوري الذي يحاول إسقاط الدولة، هو عنف مشروع كذلك؟ نظرا لما يمكن أن يترتب عن هذا العنف من دمار مباشر، اعتبر كانط أن عنف الدولة، كيفما كانت درجته هو عنف مشروع ولا يجوز مواجهته بعنف غير مشروع، لأن ذلك بدون معنى ونتائجه وخيمة. ومما لا شك فيه أن موقف كانط من نتائج الثورة الفرنسية (1789) التي كان شاهدا عليها كان سلبيا بسبب اعتمادها على العنف، وما ترتب عن ذلك من مجازر. يستند موقف كانط إلى تصور معين للقانون ينظم العلاقات بين الحاكم والمحكومين، وهو تصور يستبعد نهائيا "كل قانون مزعوم لخرق القانون" ويعتبره بدون معنى.
رغم ما يمكن تقديمه من تبريرات للعنف الصادر عن الدولة سواء كانت هذه التبريرات سياسية أو قانونية، فإن العنف يبقى دائما بدون مشروعية، لأنه يوجد خارج نطاق العقل. لذلك ينبغي فهم العنف ومواجهته بخطاب عقلي متماسك، هو الذي يؤسس اللاعنف ويثبته. وكما بين إيريك فايل تقوم الفلسفة بتوجيه نوع من العنف هو عنف العقل، الذي هو عنف مشروع ضد العنف غير المشروع، الذي هو العنف المدمر لحياة الإنسان. إن "عنف" الفلسفة يتمثل في اعتماد خطاب عقلي متماسك يخرج العنف الأول من نطاق اللامعنى إلى نطاق المعنى، بحيث يجعله يتكلم ويدخل إلى الخطاب، أي يحول العنف إلى اللاعنف.
التركيب
لقد انتهى بنا مسار تحليل المشكل ومناقشته إلى إثبات صعوبة اختزال الجواب عن السؤال المطروح في صيغة واحدة، إيجابية أو سلبية، نظرا لتعقد المفهومين المحوريين في الموضوع وهما الدولة والعنف. فالمجال السياسي هو مجال الصراع، والدولة القوية هي الدولة التي تستخدم القوة والإقناع، كما أن العنف قد لعب أدوارا حاسمة على مستوى تنظيم العلاقات الاجتماعية وتوزيع الخيرات وتحديد الأدوار، ويظهر أثره جليا على مستوى التطور الاقتصادي وفي نشأة فكرة الحق، كما يتبين مما سبق لا مشروعية العنف، رغم أن الدولة تستعمله لتحقيق غاياتها. فرغم إمكانية تبرير العنف بدعوى الدفاع المشروع عن النفس أو مقاومة الاضطهاد، فإنه يبقى بدون معنى، مستعصيا على العقل، ولا يجوز استعماله سواء من طرف الدولة أو من طرف الأفراد، لأنه مهما كانت آثاره إيجابية على المدى القصير فإنه مدمر على المدى البعيد.
المصدر: كتاب Top Philosophie الثانية باك ص 44.
0 تعليقات