تحليل سؤال فلسفي حول نموذجية العلوم الانسانية مجزوءة المعرفة

ProfSalmi مارس 17, 2024 مارس 27, 2024
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال: إن الحديث عن المعرفة يختلف بحسب المجالات، فعندما يتعلق الأمر بالمعرفة العلمية نجد أنها تهتم بدراسة الظواهر الطبيعية، سواء... نموذجية العلوم الانسانية
-A A +A

 



منهجية السؤال الفلسفي محور مسألة نموذجية العلوم الانسانية

 إنجاز الأستاذ : حسن فوز ثانوية المقاومة التأهيلية

" هل يمكن الحديث عن نموذج علمي لدراسة الظواهر الإنسانية؟ ".


نموذج تطبيقي لمحور مسألة نموذجية العلوم الانسانية

مطلب الفهم

إن الحديث عن المعرفة يختلف بحسب المجالات، فعندما يتعلق الأمر بالمعرفة العلمية نجد أنها تهتم بدراسة الظواهر الطبيعية، سواء كالكائنات المادية الحية أو الكائنات المجردة كالأعداد، من أجل الوصول إلى الحقيقة، لكن عن عندما يتعلق الأمر بالعلوم الإنسانية فإننا نجد أن موضوعها هو الظاهرة الإنسانية والذي أثيرت بصدده إشكالات ابستمولوجية متعددة في مقدمتها تلك التي يتطرق إليها السؤال المطروح، والتي تخص المنهج الممكن إتباعه لبلوغ هذه العلوم الإنسانية عتبة العلمية وهو إشكال لا يخلو من مفارقة، بحيث أن الإنسان هو منتج المعرفة وموضوع لها في نفس الوقت، وهنا تكمن إحدى صعوبات دراسة الإنسان داخل حقل العلوم الإنسانية وعليه نتساءل: هل يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية بنفس نماذج العلوم التجريبية التي حققت ثورة علمية في دراستها للظواهر الطبيعية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما المقصود بالنموذج ؟ وأي نموذج يناسب العلوم الإنسانية؟ هل المنهج الوضعي التفسيري الذي دعا إليه دوركهايم أم المنهج التفهمي الذي جسده كل من ماكس فيبر ودلتاي؟ ثم هل يمكن للعلوم الإنسانية أن تتعامل مع الظواهر التي ينتجها الإنسان بنفس طريقة العلوم التجريبية؟ ألا يقود الوعي الابستيمي بخصائص الظاهرة الإنسانية إلى تطوير نموذج للعلمية خاص بها ؟


مطلب التحليل

من خلال قراءتنا الأولية للسؤال نجده يتضمن أطروحة مفترضة، وهي أنه يمكن الحديث عن نموذج علمي لدراسة الظواهر الإنسانية. وتماشيا مع الأطروحة المفترضة، أن استلهام نموذج العلوم التجريبية إلى ميدان العلوم الإنسانية جاء نتيجة لعاملين: العامل الأول يتمثل في التطور الذي راكمته العلوم التجريبية على مستوى المناهج، وأقصد هنا المنهج الاستقرائي والمنهج الاستنباطي، وعلى مستوى النتائج التي تتميز بالموضوعية وعدم تدخل ذاتية الباحث فيها. أما العامل الثاني فيتجلى في رغبة علماء العلوم الإنسانية في تحقيق الاستقلالية التامة عن الفلسفة والتأمل الميتافيزيقي حول الإنسان.

بصيغة أخرى فإن العلوم الإنسانية أرادت أن تنفرد بدراسة الظواهر التي ينتجها الإنسان الفرد. وارتباطا بالسؤال الذي نحن بصدد تحليله ومناقشته نجد مفهوم النموذج يأخذ عدة دلالات تختلف حسب مجالات استعماله، فعندما يتعلق الأمر بالمجال الأخلاقي فإنه يعني المثال الذي يحتذى به، لكن من حيث الوظيفة العلمية فإنه يعني الطريق والمنهج والقواعد التي يمكن إتباعها للوصول إلى الحقيقة ودراسة الظواهر الإنسانية دراسة موضوعية كما تدرسها العلوم التجريبية.

كما نجد مفهوم العلوم الإنسانية التي يقصد بها تلك العلوم التي تهتم بدراسة الإنسان سواء في بعده التاريخي، وذلك من خلال دراسة الأحداث التاريخية دراسة علمية موضوعية، أو النفسي من خلال تطبيق المنهج الاستنباطي للمعرفة الذي يدرس خبايا وأعماق النفس البشرية، أو الاجتماعي كما تم مع المدرسة الوضعية الفرنسية، لكن على منوال العلوم التجريبية التي كانت تدرس الظواهر الطبيعية والكائنات العضوية كأشياء وكمادة. ولعل هذا البعد العلمي هو ما دعا إليه السوسيولوجي الفرنسي إميل دوركهايم قائلا: "إن الظواهر الاجتماعية تشكل أشياء، ويجب أن تدرس كأشياء". الشيء الذي يعني أن العلوم الإنسانية، ومن أجل الوصول إلى مرتبة العلوم التجريبية منهجا ونتيجة، وجب عليها أولا دراسة الظواهر التي ينتجها الإنسان بدون الأخذ بعين الاعتبار القيم والمعاني التي ينتجها الفرد من حرية وأخلاق وكرامة... وثانيا: إن تحقيق الموضوعية في مجال العلوم الإنسانية يتطلب فصل الذات الباحثة عن الموضوع المدروس، بمعنى آخر: وجب على الباحث وضع ذاته بين قوسين.


مطلب المناقشة

إن هذه الأطروحة لها ما يبررها ويجعلها مقبولة، والسبب يعود إلى أن النموذج المستوحى من العلوم التجريبية أثبت جدارته عندما اعتمد عليه علماء العلوم الإنسانية في دراستهم لبعض الظواهر، مثل الانتحار، البطالة، الفقر، والاكتئاب... مطبقين في ذلك المنهج الإحصائي الرياضي، ومن ثم التعامل مع هذه الظواهر كأشياء وليس كذوات. لكن من جهة أخرى نجد أن هذا التطبيق لنموذج العلوم التجريبية واجهه مشكل انفلات الإنسان الفرد من الدراسة العلمية الصارمة، والدليل على ذلك أن ظاهرة الانتحار - مثلا - تختلف من بلد إلى آخر، فقد نجد نفس الظروف والشروط التي دفعت فردا إلى الانتحار في بلد ما لا تؤدي بالضرورة إلى نفس النتيجة في بلد آخر، الشيء يجعل نتائجها تتميز بالنسبية والتغير، ومن جهة أخرى فإن تدخل عنصر الوعي والإرادة واختلافهما من فرد إلى أخر يجعل تطبيق نموذج العلوم التجريبية أمرا صعبا، مما يدفعنا إلى طرح السؤال من جديد: هل هناك نموذج علمي صريح يمكن أن تهتدي به العلوم الإنسانية؟


إذا تفحصنا تاريخ العلوم الإنسانية وأهم النظريات التي قدمت نفسها كبديل للخطاب الفلسفي نجد على سبيل المثال لا الحصر المدرسة الوضعية مع المفكرين والسوسيولوجيين الفرنسيين أوغست كونت وإميل دوركهايم من أبرز المدافعين على توظيف مناهج العلوم التجريبية من أجل دراسة الظواهر الإنسانية، ولعل هذا ما صرح به أوغست كونت قائلا: "السوسيولوجيا شأنها شأن البيولوجيا، تستخدم ثلاثة أنماط أساسية ... وهي الملاحظة الخالصة والتجريب الدقيق، وأخيرا المنهج المقارن". لكن رغم هذه المحاولة الهادفة إلى إتباع نماذج العلوم التجريبية فإن هناك من رفض تطبيق هذه النماذج في ميدان العلوم الإنسانية كما هو الشأن بالنسبة لـ"دلتاي" الذي اعتبر الظاهرة الإنسانية قابلة للفهم وليس للتفسير، فمن منظوره: " إننا نفسر الطبيعية، ونفهم الحياة الوجدانية". فالتجربة الإنسانية هي تجربة كلية وليست معطاة أو جزئية، يتداخل فيها ما هو نفسي وما هو اجتماعي. لذلك تعجز المناهج التجريبية عن النفاذ إلى المعنى الحقيقي لتك التجربة، وبذلك نكتفي بفهمها وتأويلها. في نفس السياق، ذهب السوسيولوجي الألماني" ماكس فيبر" مطبقا المنهج التفهمي لمعرفة كيفية تطور النظام الرأسمالي، مقرا بأن النظام الرأسمالي لم يتقدم عن طريق المناهج العلمية فقط، بل كذلك بواسطة سلوك وفعل الادخار الذي كان يقوم به الفرد. من هنا يتبين أن القيم والمعاني التي ينتجها ويحملها بداخله كالوعي والإرادة والسعادة والحرية لا يمكن إخضاعها للدراسة العلمية الصارمة لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان. ومن تم فان عائق الذاتية يحول دون بناء نماذج علمية خاصة بالعلوم الإنسانية.


مطلب التركيب

خلاصة القول إن الحديث عن نموذج علمي لدراسة الظواهر الإنسانية ليس بالأمر السهل، فرغم المحاولات التي بذلت من أجل رفع العلوم الإنسانية من حيث المنهج ومن حيث النتائج إلى مصاف العلوم التجريبية، فإن حضور المقومات الذاتية للفرد يقف كحاجز يحول دون تحقيق هذا المبتغى، الشيء الذي يفرض في نظرنا على علماء الإنسان إما تجريد الفرد من خصائص الذاتية وإما تأسيس نموذج خاص بها يحافظ على تلك القيم والمعاني التي ينتجها، وفي نفس الوقت النظر إلى الإنسان الفرد بنفس النظرة التي تنظر بها العلوم التجريبية إلى موضوعاتها، وقولنا هذا ليس صادرا من فراغ وإنما عن قناعة بأن العلوم الإنسانية باتت مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالانخراط في البحث عن أسباب الظواهر الاجتماعية في أفق معالجتها أولا، وثانيا من أجل المساهمة في تقدم المجتمع وتحقيق سبل سعادته. فإلى أي حد يمكن تحقيق هذا الطموح؟


شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3332087102290997945
https://www.profsalmi.com/