تحليل سؤال فلسفي معايير الحقيقة مجزوءة المعرفة
الإمتحان الوطني الموحد لسنة 2015 كل المسالك العلمية.
هل يمكن بناء الحقيقة على أساس العقل وحده؟
تصحيح موضوع سؤال فلسفي معايير الحقيقة الإمتحان الوطني الفلسفة
مقدمة : مطلب الفهم
كلنا يبحث في حياته اليومية عن الحقيقة، في الكتب، في المواقع الإلكترونية، الجرائد، الأخبار ...لأن كل شخص لديه قناعة بأن الحقيقة توجد «هناك» وما عليه إلا البحث عنها. فقد خرج «ديوجين الكلبي» يوما ما في وضح النهار يحمل بيده مصباحا ، قاصدا السوق حيث عامة الناس منشغلون في حياتهم اليومية، وعندما سئل عما يفعل أجاب « أنا أبحث عن الحقيقة» فمنذ اليونان إلى الآن اعتبرت الحقيقة هاجسا، وغاية تنشدها كل معرفة إنسانية كيفما كانت طبيعتها. مما أدى إلى غزارة في المعارف والحقائق، الأمر الذي دفع الفلاسفة إلى البحث عن معيار للحقيقة يجعلها حقيقة كونية. فما الحقيقة ؟ وما هي معاييرها؟ وهل يمكن اعتبار العقل وحده معيارا للحقيقة ؟ أم أن هناك معايير أخرى؟
العرض : مطلب التحليل
بداية، وقبل تفكيك بنية السؤال الفكرية، نرى ضرورة الوقوف عند تحليل بنيته المفاهيمية وأهم مكوناته، يبدأ السؤال بأداة الاستفهام «هل» والتي تفترض إجابتين نعم أم لا. لكن طبيعة السؤال هنا تطلب منا التصديق بأن العقل هو أساس بناء الحقيقة، بعد إزالة أداة الاستفهام. ويتضمن السؤال مفهوم الحقيقة باعتبارها مطابقة الفكر لموضوعه. ثم العقل وهو قدرة ذهنية تجعلنا نميز بين الخير والشر الصواب والخطأ. وبالعودة إلى أطروحة السؤال التي تفيد أنه يمكن بناء الحقيقة على أساس العقل وحده، فإن ذلك معناه أن العقل هو معيار الحقيقة باعتباره طريق لبلوغ الحقيقة، فهو الذي يكشف لنا عن جوهر الأشياء، عكس الحواس، التي تجعلنا نقبل أي شيء. فالعقل يمدنا بالأمور البديهية الضرورية لبناء الحقيقة، وفي هذا الإطار يقترح الفيلسوف الفرنسي «دیکارت» معيارين عقليين لبلوغ الحقيقة هما الحدس والبداهة، فالعقل باعتباره أعدل الأشياء قسمة بين الناس، والمعيار الأساسي لبلوغ الحقيقة، والعقل لكي يبلغ الحقيقة عليه أن يتبع طريق البداهة المرتبطة بالحدس والاستنباط, فالعقل يتضمن أفكار بديهية واضحة متميزة تدرك إدراكا حدسيا. ولا تحتاج إلى استدلال عقلی، بل معیار صلاحيتها في بداهتها كأن أدرك أني موجود، وأن المثلث ذو ثلاث أضلاع، الكل اكبر من الجزء، لكن هناك أفكار ندركها عن طريق الاستنباط (الاستدلال عليها عقليا)، بحيث يتم استخلاص حقائق جديدة انطلاقا من حقائق أولية بديهية. لذلك فمعيار صلاحيتها يرتبط بمدى انسجامها المنطقي.
نخلص مما سبق أن السبيل الوحيد لبلوغ الحقيقة دون الوقوع في الخطأ هو العقل عبر الحدس والاستنباط، لكن إلى أي حد يمكن الاكتفاء بهذا المعيار أم أن هناك معايير أخرى؟
مطلب المناقشة
إن هذا التصور المدافع عن أطروحة السؤال، يعكس قيمة فكرية تبين حدود الحواس في بلوغ الحقيقة، وفي نفس الوقت يشكل نموذجا للنقذ الفلسفي للحقيقة العامية، ويؤكد على أن الحقيقة لا توجد إلا في العقل نفسه. لكن إذا كان العقل طريقا للحقيقة، فإنه ليس الطريق الوحيد لبلوغها فقضايا مثل خلود النفس، وجود الله...إلخ لا يمكن البرهنة عليها بالعقل، بل هي حقائق للقلب، وهذا ما دفع الفيلسوف «بليز باسكال» إلى انتقاد التصور القائل بأن العقل هو المصدر الوحيد للحقيقة، ويرى أن القلب هو معيار الحقيقة، لأن العقل لا يمكنه معرفة كل شيء، واحتكار الحقيقة. فهناك حقائق خاصة بالقلب والأحاسيس والآراء، يعجز العقل على البرهنة والاستدلال عليها، لذلك ينبغي على العقل أن یستند في بنائه للحقيقة على معارف صادرة من القلب، الذي هو محل للآراء والخواطر، وأن القلب يشعر بالمبادئ الأولى كالحركة، الزمان والمكان، والأعداد أنها لا نهائية قبل أن يستدل عليها العقل.
ومن ناحية أخرى يذهب أحد رواد النزعة التجريبية جون لوك إلى رفض أن يكون معيار الحقيقة هو البداهة، وهذا نابع من رفضه لوجود أفكار فطرية في العقل، ويعتبر أن العقل هو صفحة بيضاء، والتجارب هي التي تمده بالمعارف والأفكار، وكل ما يوجد في العقل مصدره التجربة، إنها المعيار الأساسي للحقيقة. فتطابق الأفكار مع الواقع هو معيار الحقيقة. وإذا تعذر إرجاع قضية ما إلى أصلها الحسي التجريبي، فهي فكرة وهمية وباطلة، لأن معيار الحقيقة هو مطابقتها للواقع. هكذا يؤكد جون لوك على أسبقية المعارف المستمدة من الواقع على المعارف المستمدة من العقل.
خلاصة تركيبية و الموقف الشخصي
يلاحظ مما سبق، تناوله في التحليل والمناقشة، أن إشكالية معايير الحقيقة، أفرزت مواقف متباينة، تبين تعدد المعايير بتعدد الحقائق، فهناك من اعتبر أن معيار الحقيقة يتحدد إجمالا في العقل وما يرافقه من آليات (الحدس، الاستنباط ، البداهة). وهناك من حدده في القلب الذي يشكل موطنا للحقائق القائمة على الشعور والعاطفة. وأخيرا من حدده في التجربة ومعطياتها الحسية. وما تقدمه من معارف تتطابق مع الواقع.
يمكن القول بخصوص موضوع معايير الحقيقة، أنه ربما تتعدد هذه المعايير واختلافها في بلوغ الحقيقة هو ما يغني النقاش الفلسفي، ويجعلها تساهم في إغناء المعرفة الإنسانية وتقدمها وازدهارها، ثم ألا يؤدي التسليم بمعيار واحد للحقيقة إلى السقوط في الخطأ والوهم؟.
إرسال تعليق