تحليل ومناقشة سؤال فلسفي حول معايير الحقيقة - التطابق مع الواقع

ProfSalmi فبراير 24, 2024 مارس 27, 2024
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال: هل يمكن اعتبار التطابق مع الواقع معيارا وحيدا للحقيقة؟ لقد احتل مبحث المعرفة، في مجال التفكير الفلسفي مكانة هامة في انشغالات الفلاسفة وأبحاثهم.
-A A +A

 



سؤال فلسفي حول معايير الحقيقة

هل يمكن اعتبار التطابق مع الواقع معيارا وحيدا للحقيقة؟

الامتحان الوطني لمادة الفلسفة 2016 المسالك العلمية


موضوع فلسفي مجزوءة المعرفة مفهوم الحقيقة

مطلب الفهم: مقدمة

لقد احتل مبحث المعرفة، في مجال التفكير الفلسفي مكانة هامة في انشغالات الفلاسفة وأبحاثهم. وكان هدف الفيلسوف البحث عن مناهج عقلية تمكنه من إنتاج معرفة صحيحة بالأشياء مخالفة للمعرفة السائدة، وهي معرفة مؤسسة على حجج وبراهين عقلية هدفها بلوغ الحقيقة، وللتعرف عن الحقيقة والمعرفة الصحيحة، كان لابد للفلاسفة أن يضعوا معايير للتمييز بين الحقيقة وأضدادها. فما الحقيقة ؟ ما معاييرها؟ وهل يمكن اعتبار التطابق مع الواقع معيارا للحقيقة؟ أم أن هناك معايير أخرى؟


مطلب التحليل : العرض

انطلاقا من السؤال المطروح ومضمونه الذي يربط الحقيقة بالتطابق مع الواقع، نلاحظ أنه يحمل مجموعة من المفاهيم الأساسية التي ينبغي تعريفها، وتوضيحها، قبل الخوض في أي إجابة التساؤلات التي يطرحها. هناك مفهوم الحقيقة وهي مطابقة الفكر لموضوعه. ثم مفهوم المعيار ويعني المقياس الذي نميز فيه بين شيئين أي ما يعير به الشيء، وأخيرا التطابق.

وبالرجوع إلى مضمون السؤال يتضح انه يفترض أطروحة مفادها أن التطابق مع الواقع معيارا وحيدا للحقيقة، وهذا يتبدى لنا بعد إزالة أداة الاستفهام «هل» التي لا تفيد هنا الإجابة بنعم أم لا، وإنما المطلوب التصديق والدعوة إلى التفكير في معيار المطابقة مع الواقع، فالفكرة الحقيقة هي التي تتطابق مع ما يوجد في الواقع، فعندما نقول أن المعادن تتمدد بالحرارة فهذه قضية تم التوصل إليها بإجراء التجربة على بعض المعادن في الطبيعة، مثلما أن الماء عندما يصل إلى درجة حرارة 100 فإنه سيتبخر، فهذه حقائق توصلنا إليها بعد عملية تجريبية. كما أن عامة الناس غالبا ما يميلون إلى ربط الحقيقة بما يرونه في الواقع بشكل مباشر عن طريق الحواس والتجارب، وهذا ما صرح به «جون لوك» حينما اعتبر أن التجربة هي مصدر كل حقيقة، بل المعيار الحقيقي لفحص الوقائع والتأكد من صحتها أو كذبها، فالتجارب هي ما يمدنا بالأفكار والمعارف، وكل ما يوجد في العقل مصدره التجربة، لأنه صفحة بيضاء خالية من أي معرفة. والتجربة هي التي تزوده بالأفكار إنها المعيار الأساسي للحقيقة. فتطابق الأفكار مع الواقع هو معيار الحقيقة وإذا تعذر إرجاع قضية ما إلى أصلها الحسي التجريبي، فهي فكرة وهمية باطلة.


نخلص مما سبق أنه كلما كانت الفكرة مطابقة للواقع، كلما كانت حقيقية مما يعني أن معيار كل حقيقة هو الواقع التجريبي. لكن هل يمكن القبول بهذا التصور كإجابة نهاية لمعيار الحقيقة أم أن هناك معايير أخرى للحقيقة؟


المناقشة وقيمة الاطروحة وحدودها

إن هذا التصور المعبر عنه في السؤال يكتسي أهمية فكرية وقيمة فلسفية بتأكيده على الواقع والحواس كمعيار للحقيقة، لميل الإنسان دائما إلى ربط ما هو حقيقي بما هو واقعي. وبهذا المعنى يكون هذا التصور قد تجاوز أصحاب النزعة العقلانية، وعلى وجه الخصوص، الفيلسوف « رونیه دیکارت » الذي رفض التجربة والحواس وجعل العقل هو مصدر اليقين والمعيار الأساسي لبلوغ الحقيقة.

والعقل لكي يبلغ الحقيقة عليه أن يتبع طريق البداهة المرتبطة بالحدس والاستنباط. فالعقل يتضمن أفكار بديهية واضحة متميزة تدرك إدراكا حدسيا ولا تحتاج إلى استدلال عقلي، بل معيار صلاحيتها في بداهتها، كأن أدرك أني موجود ، الكل اكبر من الجزء ...إلخ. لكن هناك أفكار ندركها عن طريق الاستنباط ( الاستدلال عليها عقليا) بحيث يتم استخلاص حقائق جديدة انطلاقا من حقائق  أولية بديهية، لذلك فمعيارها يرتبط بمدى انسجامها المنطقي.


لكن رغم أهمية أفكار التصورين السابقين و قيمة حجهما، إلا أنهما سقطا في الانغلاق على معيار واحد دون الآخر، التجريبيون أكدوا على التجربة والعقلانيون على العقل كمعيار للحقيقة ، في حين أن «إيمانويل كانط» أكد بالقول أن الحقيقة ليست معطاة في العقل بشكل فطري وليست مستمدة من الواقع. منتقذا بذلك التصور العقلاني الذي يعتبر الحقيقة عقلية صورية ، والتصور التجريبي الذي اعتبر الحقيقة مطابقة الفكر للواقع. ويرى «أن المقولات العقلية بدون معطيات حسية جوفاء، والمعطيات الحسية بدون مفاهيم عقلية تبقى عمياء» أي أن العقل محدد بالتجربة والتجربة محددة بالعقل. لا توجد في الواقع أو في الفكر على نحو جاهز، بل تبني وتشيد بينهما. فالفكر انطلاقا من الواقع المادي يضفي عليه صورة والواقع لا صورة له بدون فكر أي أن الحقيقة حسب «كانط» ذات معيار صوري مادي.


التركيب والموقف الشخصي

يمكن أن نستنتج مما سبق تحليله ومناقشته حول معيار الحقيقة أن هذا الموضوع أثار جدلا فلسفيا، بين معتبر أن التطابق مع الواقع هو المعيار الأساسي للحكم على شيء ما انه حقيقي. و بين مدافع عن العقل كمعيار للحقيقة انطلاقا من الحدس والاستنباط كمعيارين عقليين، وبين منتصر للتلازم بين العقل والواقع معا كمعيار للحقيقة.

يتضح لنا انطلاقا واقعنا المعيش أن الحقيقة ما دامت غاية كل معرفة وكل بحث إنساني، فإن هذا يجعل من معيارها، ليس معيارا واحدا، بل معايير متعددة تتعدد وتختلف باختلاف وجهات النظر، وأبحاث الناس غاياتهم إنها ذات طابع نفعي أو إيديولوجي، سياسي أو اقتصادي، فما يبدو حقيقيا بالنسبة للبعض الآخر لا يكون كذلك بالنسبة للبعض الآخر. وهذا الاختلاف هو ما يدفع الناس باستمرار إلى البحث عن الحقيقة وبلوغها، لكن هل وجود معيار للحقيقة هو ما يمنحها قيمة ؟ وما قيمة الحقيقة ؟



شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3332087102290997945
https://www.profsalmi.com/