معايير علمية النظريات العلمية منهجية السؤال الفلسفي
السؤال
« ما الذي يجعل من نظرية ما نظرية علمية؟ »
منهجية تحليل سؤال فلسفي معايير علمية النظريات العلمية
تشكل المعرفة بعدا أساسيا من الأبعاد التي تكشف عن الفاعلية الإنسانية كفاعلية مبدعة، وتتحدد كنشاط فكري يسعى من خلاله الإنسان إلى إدراك ذاته ومحيطه الخارجي والوعي بهما. وإذا كان تطور المعرفة قد مكن الإنسان من الإمساك بمجموعة من القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية عبر مساهمة كل من النظرية والتجربة في إنتاج المعارف العلمية، فان ذلك التطور لم يخلو من إشكالات، لعل من بينها إشكال معايير علمية النظريات العلمية وكيفية الفصل بين ماهو علمي وما هو غير علمي وهو إشكال لا يخلو من مفارقات: فإذا كان البعض ينتصر لمعيار التحقق التجريبي في إثبات علمية نظرية ما، فان البعض الآخر ينحاز إلى محك التماسك والانسجام المنطقي. وهنا يصبح من المشروع أن نتساءل:
ما الذي يجعل من نظرية ما نظرية علمية؟ بمعنى ما هو المقياس الذي تقاس به علمية النظرية العلمية؟ هل هو معیار التحقق التجريبي أم التماسك المنطقي؟ ألم يقد تطور النظريات العلمية إلى إبداع معايير جديدة مثل معيار القابلية للتكذيب/ التفنيد؟
مطلب التحليل
قبل الجواب على الإشكال الذي ينطوي عليه السؤال ينبغي أولا تحديد متضمناته ومفاهيمه، فالسؤال يبتدئ بما وهي أداة استفهام يطلب بها معرفة ذات الشيء، كما يتضمن السؤال أيضا مفهوم النظرية، ويعرفها ( لالاند) بكونها " إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ "وفي المجال العلمي تتحدد بكونها نسق من القوانين والمبادئ التي تنظم معرفتنا بمجالات خاصة ويتضمن هذا النسق بناء منطقيا له مكوناته، ويخضع لنظام فرضي- استنباطي يسمح للعالم بالانتقال من عنصر لأخر وفق تراتب صارم. بالإضافة إلى هذه المفاهيم نجد أيضا مفهوم علمية والتي تتحدد بالشروط المطلوبة والمقبولة إما عقليا أو تجريبيا أو هما معا. يتضح من خلال تحديد المفاهيم الأساسية في السؤال إن الموضوع المعالج والمتعلق بمعايير علمية النظريات العلمية موضوع إشكالي تباينت بخصوصه أطروحات وتصورات العلماء والمفكرين، نذكر منها الأطروحة التجريبية – الوضعية التي تعطي الأولوية للتجربة كمنبع للنظرية وتجعل من مبدأ التحقق التجريبي معيارا أساسيا لصلاحيتها، ولا تعترف بمعيار التماسك والانسجام المنطقي من منطلق أن موضوع النظرية الفيزيائية هو الظواهر الطبيعية مثل انتشار الحرارة وهذا لا يمكن الكشف عنه إلا عبر الملاحظة والتجريب، ذلك أن مهمة العلم تكتفي بقياس المقادير كما تتجلى لنا في الملاحظة على شكل كتلة أو ضغط أو حرارة أو حجم أو طاقة، كما أن الطبيعة لا تخضع لقواعد منطقنا لأنها أكثر ثراء وتعقدا، لذلك فالروح العلمية تقتضي التقيد بمعطيات الخبرة وحدها، ومن ثمة فالدقة المطلوبة على صعيد النظريات الفيزيائية لا يمكن أن تمنحها الرياضيات بمنهجها العقلاني المنظم، وإنما مطابقتها للواقع التجريبي، وهذه المطابقة هي التي تسمح بالتنبؤ فيما بعد، مثال ذلك اصطدام كرتين من كرات البليارد، هذا الاصطدام القابل للملاحظة والقياس، يمكننا من معرفة موقع هذين الكرتين وكتلتيهما. وعليه فالمحك الذي تقاس به علمية النظريات العلمية هو التحقق التجريبي، وكل نظرية لا يمكن إثبات صحتها انطلاقا من ملاحظات حسية تجريبية لا يمكن اعتبارها علمية وفي هذا المعنى يقول " بيير دوهيم " كممثل للنزعة التجريبية الوضعية :" إن الاتفاق مع التجربة هو الذي يشكل بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد للحقيقة ".
مطلب المناقشة
تكتسي أطروحة التحليل المفترضة والمعبرة عن وجهة نظر النزعة الوضعية – التجريبية قيمة فلسفية ومعرفية تكمن في تأكيدها على أن التجربة هي نقطة الانطلاق ونقطة الحسم، فهي تتيح للعالم دراسة الظاهرة المدروسة كما هي، بشكل موضوعي وفي حياد تام لذاته، بمعنى أنها تحقق الموضوعية في دراسة الظواهر، وهذا ما أدى إلى تجاوز التفسيرات الميتافيزيقية التي كانت متداولة من قبل، وهذا المعيار أكد عليه التجريبيون الكلاسيكيون والمعاصرون على حد سواء، ومنهم (هانز رايشنباخ) الذي أكد على ضرورة الانطلاق من التجربة والانتهاء بها، وهذا يعني أن التحقق من صحة النظرية يتم عبر مطابقتها لمعطيات الواقع التجريبي، وهو في هذا السياق لا يخفي معاداته لكل نزعة عقلانية في العلم متعالية على التجربة، ويؤكد أن الأنساق العقلانية بتعاليها عن التجربة تكون أقرب إلى الميتافيزيقا أو التصوف الفكري منه إلى العلم. لكن رغم أهمية هذا التصور المؤكد على التحقق التجريبي كمعيار للحسم في علمية النظرية العلمية فهو ليس بمنأى عن النقد والمساءلة. فهل يمكن للتجربة الحسم في صحة الظواهر الميكروفيزيائية أي اللامتناهية في الصغر؟ بمعنى إذا كان معيار التحقق التجريبي فعالا فيما يخص الواقع المادي الملموس فماذا عن الواقع المبني أو المبدع عقليا؟ ثم ألا يمكن دحض نظرية ما بواسطة التجربة عوض إثبات صحتها؟
على خلاف التصور التجريبي - الوضعي يرى " ألبيرت اينشتاين" أن معيار علمية النظرية العلمية هو الانسجام والتماسك المنطقي، ، ذلك أن النظرية الفيزيائية المعاصرة هي إبداع عقلي حر، فالعقل الرياضي هو وحده الكفيل ببنائها، فإذا كانت النظرية في الفيزياء الكلاسيكية تتعامل مع موضوعات قابلة للملاحظة والتجربة فإن العلم في الفيزياء المعاصرة يرى أن الواقع هو ما يتم فهمه بفعل تدخل العقل الرياضي، انطلاقا من الاستنباط المنطقي وليس انطلاقا من التجربة، التي يبقى دورها منحصرا في اقتراح الفرضيات وإمكانية تطبيقها، ومن ثمة على التجربة أن تطابق معطيات البناء النظري وليس العكس. وهكذا فمعيار صلاحية النظرية العلمية، لا يرجع إلى التجربة وإنما إلى تماسكها المنطقي. فكلما كانت النظرية مستخلصة بشكل منطقي كانت علمية. لكن ألا يمكن أن تعمل التجربة على اختبار صحة النظرية العلمية عوض إثبات صحتها؟
إن هذا التصور هو ما عمل " كارل بوبر " على الدفاع عنه، لأنه يعتقد أنه لا يمكن إثبات صحة نظرية ما من خلال التجربة، وإنما يمكن اختبارها عبرها، فالاختبار معناه أن دور التجربة ينحصر إما في تعزيز النظرية أو دحضها، فلا يدخل في مهامها إثبات صحة النظرية، ويرى أن التعزيز معناه أن النظرية تصمد في وجه الاختبارات التي تجتازها إلى أن تظهر وقائع مناقضة لها تدحضها فتستبدل بنظرية أخرى تخضع بدورها للاختبار وهكذا دواليك، بمعنى لا وجود لنظرية تدعي الإطلاقية. وعليه فمعيار صحة النظرية العلمية هو قابليتها للتفنيد أو الدحض لأن العلم يتطور بحذف قضايا كاذبة وليس بإثبات قضايا صادقة. والحقيقة العلمية ليس مطلقة نهائية بل هي نسبية متغيرة ولذلك قيل بان" كارل بوبر"جاء بمعيار شاذ.
مطلب التركيب
على سبيل الختم إذن، يمكن أن نستنتج أن إشكال معايير علمية النظريات، لم يحظ بإجماع العلماء والمفكرين لذلك يمكن القول أن ما قدم من نقد للتصور الوضعي الاختباري له قيمته من الناحية العلمية، ذلك أن الواقع العلمي الراهن، سواء على مستوى الرياضيات أو الفيزياء أو غيرها من العلوم الأخرى أصبح يعطي للفرض العلمي دورا أساسيا في بناء المعرفة العلمية ويظهر ذلك في الاهتمام الذي توليه العلوم للصياغة الأكسيومية لنظرياتها، هذه الصياغة التي تهتم بمدى مطابقة رموزها الرياضية المختارة بشكل حر مع ما يجري في الواقع الحسي التجريبي، لكن هذا لا يعني إقصاء التجربة من كل بحث علمي وإنما وضع حدود لها، ليست التجربة بمعناها الكلاسيكي المباشر وإنما التجربة بمعناها المعاصر أي المجهزة بآليات دقيقة ومحكمة؛ أي لا مناص في العلم المعاصر من الإقرار بتكامل كل من العقل المنفتح على كل الاحتمالات والتجربة بمعناها السابق.
إنجاز الأستاذة: الزاهية الحو؛ ثانوية ابن ياسين التأهيلية
إرسال تعليق