نموذج تطبيقي لسؤال فلسفي حول معايير الحقيقة - مجزوءة المعرفة

ProfSalmi فبراير 26, 2024 مارس 27, 2024
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال: « هل يمكن الاطمئنان إلى البداهة كمعيار للحقيقة؟ » تعتبر مشكلة الحقيقة من المشكلات الأساسية في الفلسفات التقليدية التي كانت منشغلة بهاجس البحث عن
-A A +A

 



منهجية تحليل سؤال فلسفي معايير الحقيقة

إنجاز الأستاذة: رشيدة العيش؛ ثانوية الفوسفاط التأهيلية

السؤال:

« هل يمكن الاطمئنان إلى البداهة كمعيار للحقيقة؟ »


تحليل سؤال فلسفي حول معايير الحقيقة مجزوءة المعرفة

مطلب الفهم

تعتبر مشكلة الحقيقة من المشكلات الأساسية في الفلسفات التقليدية التي كانت منشغلة بهاجس البحث عن الحقيقة، وكذا الفلسفات النقدية المعاصرة التي عملت على تقديم تحليل نقدي لخطابات الحقيقة للكشف عن تناقضاتها وأوهامها. وإذا كان التفكير في الحقيقة قد شغل الفلسفة عبر تاريخها فما ذلك إلا لقيمتها من جهة طابعها الإشكالي من جهة أخرى بحيث تطرح إشكالات متعددة في مقدمتها تلك التي ينفتح عليها مضمون هذا السؤال والتي تخص إشكالية معايير الحقيقة والمفارقة التي تنطوي عليها بين من يتصور الحقيقة بديهية وواضحة يدركها العقل بشكل مباشر وبين من شكك في هذا المعيار ليجعلها مطابقة للواقع وهو الإشكال الذي يمكن صوغه من خلال التساؤلات التالية: 

هل البداهة بما تمثله من معاني الوضوح والتميز، يمكن اعتبارها معيارا مناسبا للحقيقة أم أن الأمر يستدعي البحث عن معايير أخرى؟ ألم يفضي التطور العلمي والتقني إلى فقدان الحقيقة لبداهتها العقلية وارتباطها بما هو مفيد ونافع؟ ما قيمة وحدود هذا التصور الذي يكاد يطمئن إلى البداهة كمعيار للحقيقة؟


مطلب التحليل

قبل أن نتبين تصور مضمون هذا السؤال وما إن كانت البداهة معيارا مناسبا أم لا لرسم معالم الحقيقة، نتوقف أولا عند دلالة ألفاظ ومفاهيم السؤال المطروح، فلفظ هل أداة استفهام يطلب بها التصديق بقضية ما، وليس المطلوب هنا الجواب بنعم أو لا، وإنما دعوة إلى التفكير ومساءلة الموضوع المطروح. لقد تضمن هذا السؤال مفاهيم أساسية أولها مفهوم الحقيقة والذي انحصر في الفلسفة الحديثة والمعاصرة في مجال الفكر واللغة، فبدون فكر يحكم على الواقع، ولا لغة تعبر عن الفكر لا يكون ثمة معنى للحقيقة، ثانيا البداهة وتعني ما يتسم بالوضوح التام وما لا يمكن حجبه عن الفكر وأخيرا المعيار وهو كل ما نقيس به ونميز به الأشياء والمفاهيم. وبعودتنا إلى السؤال أعلاه؛ ومن خلال بنيته المفاهيمية نجده يتضمن أطروحة مفترضة مفادها أن البداهة يمكن أن تكون معيارا ملائما للحقيقة ويمكن الاطمئنان إليها للتمييز بين فكرة صحيحة وأخرى خاطئة مادامت الفكرة البديهية فكرة واضحة ومتميزة تجعل العقل يدركها دونما حاجة إلى استدلال أو برهنة على صحتها وهو ما يتم من خلال عملية الحدس التي تطلق في الفلسفة على كل إدراك عقلي مباشر للحقائق دون حاجة إلى إقامة ترابطات استدلالية على صحتها وتكون هي نفسها منطلقا لبلوغ حقائق أخرى مثل قولنا المثلث له ثلاثة أضلع، فهو قول يحمل في ذاته بداهة حقيقته فحينما نقول مثلث فإننا حتما نعرف أن له ثلاثة أضلع وليس أقل أو أكثر دون عناء، وكذلك في قولنا الكل أكبر من الجزء...


مطلب المناقشة

تكمن قيمة الأطروحة المفترضة والتي تعتبر البداهة معيارا ممكنا للحقيقة، في تثمينها لدور العقل في إدراك الحقائق بالنظر إلى ما يتميز به من قدرات وإمكانات تجعله قادرا على أن يجعل الإنسان أمام حقائق لا يمكن أن يلحقها أدنى شك وفي ذلك أيضا تأكيد على الماهية الخاصة للإنسان كجوهر مفكر وهي الصفة التي ظلت الفلسفة تخصه بها دون سواه من باقي الموجودات الحية، وهو التصور الذي انتصر إليه الفيلسوف الفرنسي ديكارت حتى لقب بأب الفلسفة الحديثة، حيث دافع بقوة عن مفهوم البداهة واعتبره معيارا صلبا يمكن من التعرف على الحقيقة، ففي كتابه" مقال في المنهج" حاول ديكارت إعطاء تصوره حول الحقيقة معتمدا في ذلك على منهج عقلي سماه الشك المنهجي كشك مؤقت يمكننا - في نظره – من امتحان معارفنا وقوانا العارفة، فوضع ديكارت العالم الخارجي والحقائق الرياضية وجميع الموجودات موضع شك وتساؤل، لكن وهو يشك انتبه إلى أن الشك هو في حقيقته تفكير، يقول ديكارت في هذا الأمر " أنا أشك إذن أنا أفكر، أنا أفكر إذن أنا موجود" فتفكيري إذن دليل وجودي، هذه حقيقة بديهية واضحة لا لبس فيها ولا غموض.

لقد توصل ديكارت إلى حقيقة أولى يقينية عن طريق الشك كمنهج عقلي، ومن هنا يصبح العقل في نظر ديكارت الوسيلة التي من شأنها أن توصلنا إلى الحقيقة إذا نحن استخدمناها استخداما حسنا ومن أجل ذلك يرى ديكارت أنه لكي يتسنى لنا أن نضفي على علم أو معرفة يقينا لا مجال للشك فيه يجب أن لا نشتغل إلا بالمعاني الواضحة المتميزة، وأن نرتب أفكارنا في نسق خاص وليكن شعارنا دائما هو الوضوح والبداهة، وهو أمر يتطلب منا الابتعاد عن تلك الآراء التي يصفق لها الناس" إن إجماع الكثرة من الناس لا ينهض دليلا يعتد به لإثبات الحقائق التي يكون اكتسابها عسيرا " إن طريق المعرفة اليقينية في نظر ديكارت هو البداهة العقلية القائمة على الحدس، فهي في نظره معيار صلب يمكن الاطمئنان إليه لبناء الحقيقة فالبداهة هي خاصية الأفكار الواضحة والمتميزة، واضحة لأنها تدرك بدون وساطة، ومتميزة لأنها لا تختلط مع أي فكرة أخرى غيرها، ومن ثمة تكون الحقيقة عند ديكارت من طبيعة عقلية خالصة لا علاقة لها بما يجري في الواقع الحسي التجريبي.

لقد شكلت أطروحة ديكارت هذه حول طبيعة الحقيقة ومعيارها المتمثل في البداهة العقلية، موضوع اهتمام مجموعة من الفلاسفة، خاصة العقلانيين منهم؛ نذكر على سبيل المثال الفيلسوف الهولندي" اسبينوزا " الذي أكد أن للحقيقة علامتها الخاصة بها وهي بهذا لا تحتاج للوصول إليها وامتلاكها المرور عبر عملية الشك كما قال ديكارت فالذي يملك فكرة حقيقية يعرف حق المعرفة أنه فعلا يمتلك هذه المعرفة ولا يشك فيها، فما يضفي اليقين على الحقيقة هو بداهتها التي تفرض نفسها على العقل يقول اسبينوزا "فكما أنه بانكشاف النور ينقشع الظلام، فالحقيقة أيضا إنما هي معيار ذاتها ومعيار الخطأ ".

لكن هل يمكن القبول بهذا التصور كحل لإشكالية معيار الحقيقة؟ هل فعلا يمكن الاطمئنان للبداهة العقلية كمعيار صلب للتعرف على جوهر الحقيقة؟ ألا يمكن أن نعثر على معايير أخرى لها – هي أيضا - قيمتها في تأسيس الحقيقة؟

في مقابل هذا التصور العقلاني للبداهة، نجد تصورا آخر مناقضا له، مثله على الخصوص الفلاسفة الإنجليز، نذكر منهم على سبيل المثال "دافيد هيوم" الذي اتجه تحت تأثير التجريب العلمي، وما أفضى إليه من ثورة صناعية، إلى منح الانطباعات الحسية والتجربة الصدارة في بناء الحقيقة، واعتبار العقل ومبادئه المنطقية (مبدأ الهوية، مبدأ عدم التناقض...) مجرد تابع لها، فالفكرة الحقيقية في نظرهم لا تكون كذلك، إلا إذا جاء حكمها مطابقا للواقع، ومن ثمة فالتجربة الحسية وحدها هي التي تنقش في عقولنا المبادئ والأفكار البسيطة منها والمركبة، لذلك فالتطابق مع الواقع هو معيار الحقيقة وليس بداهة الأفكار الواضحة والمتميزة، كما عبر عن ذلك ديكارت، فلكي أحكم على هذا الطعام أنه حلو أو مر، ويكون حكمي صادقا فما علي إلا أن أستعمل حاسة الذوق وقس على ذلك باقي الأشياء المحيطة بنا.


لم يحسم إشكال معايير الحقيقة بهذا النقد التجريبي الحسي للتصور العقلاني، والذي انطلق من فرضية العقل صفحة بيضاء بحيث حاول فيلسوف المطرقة النقدية "كانط" التوفيق بين كل من العقلانيين والتجريبيين وإيجاد معيار كوني للحقيقة، حيث جعلها تشمل كلا من العقل والتجربة، فهو ينتقد ديكارت لإهماله دور التجربة في بناء الحقيقة، كما ينتقد التجريبيين الذي انتصروا للتجربة على حساب العقل، ولذلك فهو يجمع بينهما ويجعل كلا منهما (العقل والتجربة) بدون معنى إلا عندما يتحدان معا، وهذا ما يفهم من قولته المشهورة" المفاهيم العقلية بدون حدوس حسية قوالب جوفاء، والحدوس الحسية بدون مفاهيم عقلية تظل عمياء" وبذلك تكتسي البداهة طابعا خاصا مع كانط؛ فلا هي عقلية ولاهي تجريبية، وإنما هي مركبة منهما معا.

وإذا كانت الفلسفات الكلاسيكية قد قبلت بفكرة البداهة مثلما نجد مع ديكارت واسبينوزا.. كمعيار للحقيقة، فإن الفلسفات المعاصرة عملت على تحطيم فكرة البداهة وتجاوزها حيث اعتبر الرياضيون المعاصرون أن الأخذ بفكرة البداهة هو الذي أوقع الرياضيين الكلاسيكيين في مغالطة التمييز بين البديهيات والمسلمات، فلا وجود لأفكار واضحة بذاتها، فكل فكرة تحتاج إلى برهان ومن ثمة فهي أولية Axiome؛ ففكرة "الكل أكبر من الجزء" التي كان يعتبرها الرياضيون الكلاسيكيون بمثابة بديهية عقلية أصبحت في نظر العالم الرياضي المعاصر" جورج كانتور" صاحب نظرية المجموعات مجرد أولية في حاجة إلى البرهنة عليها، فإذا كان من السهل على العقلانية الكلاسيكية أن تستوعب فكرة "الكل أكبر من الجزء" فإنه من الصعب عليها أن تتقبل قضية مثل" الكل يساوي الجزء" أو " الجزء أكبر من الكل". وعليه فليس هناك في نظر الرياضيين المعاصرين أفكار بديهية واضحة بذاتها، ولا فرق إذن بين ما كان يسمى بديهيات ومسلمات، فكلاهما في حاجة إلى برهان، لذا تم الجمع بينهما في مصطلح واحد هو "الأوليات" وتعني المنطلقات أو الفرضيات التي ينطلق منها العالم الرياضي ليبني نسقا رياضيا معينا.

يبدو إذن أن البداهة كمعيار للحقيقة لا يمكن الاطمئنان إليها، ومن هنا كان اقتراح الفلاسفة المعاصرين لمعايير أخرى لها هي أيضا وزنها في بناء الحقيقة كمعيار المنفعة عند وليام جيمس، فقد ذهب هذا الفيلسوف الأمريكي إلى أن الحقيقة ليست كامنة في العقل ولا في التجربة، وإنما فيما يحقق المنفعة، إنها مرادفة للنجاح، فالفكر معلق بالعمل ما دامت الغاية الأساسية للحياة هي حفظ البقاء.


مطلب التركيب

ترتيبا على ما تقدم، وكجواب عن السؤال أعلاه، فإن معيار البداهة لم يعد المعيار الذي يمكن الاطمئنان إليه لتأسيس الحقيقة، وذلك لما كشف عنه العلم المعاصر من تهافت لهذا المعيار وعدم صلابته، بل هناك من ذهب إلى القول أن البداهة كمعيار يمكن أن يخطئنا في البحث عن الحقيقة وفي هذا يقول ليبنز "إن ديكارت أسكن الحقيقة في دار ضيافة البداهة، ولكنه أهمل أن يعطينا عنوانها" إذ كيف يمكن التمييز بين البداهات الصحيحة والبداهات الخاطئة؟ ومن هنا قد تصبح الثقة العفوية في البداهة من أكبر العقبات أمام تطور العلم كما تعرض معيار المطابقة لعدة انتقادات فهذا الفيلسوف الألماني "هيدغر" يعتبر بأن المطابقة لا تكون إلا بين شيئين متماثلين في الشكل والطبيعة، ومن تم، يستحيل المطابقة بين الفكر والواقع، لأنهما من طبيعتين مختلفتين، فالفكر من طبيعة روحية والواقع من طبيعة مادية، وهذا ينتج عنه أن معيار الحقيقة إذن ليس واحدا بل متطور ومتعدد بتعدد العلوم والمعارف الإنسانية، وبذلك تبقى كل هذه المعايير لها قيمتها الفكرية والتاريخية، ويجب النظر إليها في تكاملها، لأن الفعل الإنساني هو وحدة متكاملة لا يمكن الفصل فيها بين ما هو فلسفي وعلمي أو ديني أو سياسي أو اقتصادي، كل هذه الأفعال رغم تعددها وتنوعها يروم الإنسان من ورائها الإمساك بحقيقة ذاته المتعددة الأبعاد، ومحيطه الخارجي وهو مالا يمكن أن يتم بشكل حتمي من خلال البداهة العقلية وحدها.

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3332087102290997945
https://www.profsalmi.com/