المحور الثاني معايير الحقيقة
مقدمة
في طريقنا للبحث عن الحقيقة، قد تكون هذه الحقيقة أمامنا أو خلفنا، في الماضي أو الحاضر أو المستقبل. كما أن الحقيقة ليست واحدة بل متعددة، ولها أوجه مختلفة.
لكن كيف نعلم أن ما وجدناه هو الحقيقة وأننا لسنا ضحايا خداع ؟ وما هي معايير صدق الحقيقة ؟ بل هل هناك معيار شمولي واحد أم معايير متعددة للحقيقة ؟ وقبل هذا وذاك ما المراد بالمعيار ذاته ؟
المعيار معجميا نموذج أو مقياس مادي أو معنوي لما ينبغي أن يكون عليه شيء ما (المعير أو المقيس). فهو النموذج المثالي الذي نعير أو نقيس به المحسوسات أو المعقولات بهدف إصدار حكم معياري - قيمي عليها حسب مدى مشاركتها فيه أو اقترابها منه.
هناك معايير متعددة ومتباينة لقياس صدق الحقيقة تتعدد بتعدد وتباين المذاهب والاتجاهات الفلسفية.
مواقف الفلاسفة معايير الحقيقة
الإشكال : كيف يمكن التمييز بين الحقيقة و غيرها ؟ ما هي معايير صدق الحقيقة؟ هل مطابقتها للواقع المادي أم للعقل الصوري؟
موقف سبينوزا (1632 - 1677)
الحقيقة معيار ذاتها.
يرى سبينوزا أن الحقيقة معيار ذاتها، إذ أنها من الوضوح لدرجة أنه ليس هناك ما هو يقيني أكثر منها ليعتبر معيارا لها. فالحقيقة معيار الصحة ومعيار الخطأ أيضا، ذلك أن الفكرة الصحيحة هي الفكرة المطابقة لذاتها، وتكون مطابقة لذاتها، بشرط أن تكون مطابقة لذاتها، وهذا يبين أن الحقيقة هي معيار ذاتها.
موقف دافيد هيوم (1711 - 1776)
لمقاربة لنفس الإشكالية، وفي إطار تجاوز موقف سبينوزا، يمكننا الإنفتاح على هيوم، والذي يقسم الموضوعات التي يشتغل عليها العقل الإنساني إلى نوعين : فهناك معارف عقلية، وهناك معارف لها اتصال بالواقع والتجربة، ولذلك يتحدث عن معيارين للحقيقة : معيار منطقي عقلي وآخر حسي تجريبي. المعيار الأول به نتثبت من صحة القضايا والحقائق الصورية. وأما المعيار الثاني فنتحقق من خلاله من صحة وصدق القضايا التجريبية.
ولأن دافيد هيوم تجريبي فقد ظل وفيا لمذهبه، ولذلك فهو يرى أن الحقائق العقلية ذات محتوى تجريبي ومضمون مادي، فالحقائق العقلية في العمق لها ارتباط بالواقع والمعطى المادي، وبالتالي فهي تؤول في النهاية إلى حقائق تجريبية.
موقف ايمانويل كانط (1724 - 1804)
في إطار تركيب وتجاوز التصورين السابقين يأتي كانط بموقفه النقدي.
هكذا أسس كانط أطروحة مفادها أن الحقيقة لا توجد في الواقع ولا في الفكر على نحو جاهز، وإنما تبنى وتشيد، يبنيها ويشيدها الفكر انطلاقا من معطيات التجربة الحسية، التي هي مادة خام تضفي عليها الذات العارفة شكلا وصورة. إن الحقيقة ليست جاهزة ولا معطاة، بل إن الإنسان يبنيها عن طريق الجمع بين معطيات التجربة ومفاهيم العقل ومنه نفهم العبارة الشهيرة لكانط : « الحدوس الحسية بدون مفاهيم عمياء، والمفاهيم العقلية بدون حدوس حسية جوفاء ». ونتيجة لذلك لا تصبح الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع بل هي إنتظام الواقع وفقا لبنية الفكر ونظامه القبلي المتعالي.
موقف جون لوك (1632 - 1704)
معيار التجربة.
يرى جون لوك أن كل الحقائق مصدرها التجربة، وما العقل إلا صفحة بيضاء يستمد معارفه من التجارب الحسية عن طريق الحواس التي تمده بأفكار بسيطة ويعمل هو على التركيب بينها لإنتاج أفكار كلية كفكرة الجوهر والعلية، هكذا يكون معيار صدق الحقيقة هو مطابقتها للواقع الحسي التجريبي مطابقة تامة، فحين أقول مثلا أن الماء يتبخر بالحرارة يكون حكمي صادقا لأن الواقع يؤكده بالملاحظة الحسية والتجربة. فمعيار صدق الحقيقة حسب جون لوك هو التجربة.
موقف وليام جيمس (1842 - 1910)
معيار المنفعة والمصلحة.
يرى وليام جيمس أن معيار صدق الحقيقة هو تحقيق المنفعة والمصلحة، فالسلوك العملي النافع هو المعيار الوحيد لصدق الحقيقة، والفكرة مهما كانت، علمية أو دينية أو فلسفية أو سياسية أو اجتماعية تكون صحيحة وصادقة إذا أدت إلى نتائج عملية نافعة تفيد الفرد في حياته اليومية وتساعده على النجاح، إن النتائج أو الآثار التي تنتهي إليها الفكرة، حسب وليام جيمس، هي الدليل الوحيد على صدقها وصوابها.
موقف ديكارت (1596 - 1650)
البداهة العقلية معيار الحقيقة الأساس.
يعتبر أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس والمعيار الأساسي لبلوغ لحقيقة والعقل لكي يبلغ الحقيقة عليه أن يتبع طريق البداهة المرتبطة بالحدس والاستنباط. فالعقل يتضمن أفكار بديهية واضحة متميزة تدرك إدراكا حدسيا ولا تحتاج إلى استدلال عقلي، بل معيار صلاحيتها في بداهتها، كأن أدرك أنني موجود وأن المثلث ذو ثلاث أضلاع، الكل اكبر من الجزء. لكن هناك أفكار ندركها عن طريق الاستنباط (الاستدلال عليها عقليا)، بحيث يتم استخلاص حقائق جديدة انطلاقا من حقائق أولية بديهية، لذلك فمعيار صلاحيتها يرتبط بمدى انسجامها المنطقي.
موقف ليبنز (1646 - 1716)
البرهان السليم معيار الحقيقة.
ليبنز يرى أن البرهان وحده يميز بين الحقيقي وغيره، و ينطلق ليبنز من نقد التصور الديكارتي الذي يرى ان الحقيقي هو الواضح والتميز، أو البداهة العقلية، وذلك انطلاقا من غموض هذا التصور، لذلك يعتبر ليبنز أن البرهان السليم هو معيار الحقيقة.
ذات صلة نموذج تطبيقي : تحليل سؤال فلسفي معايير الحقيقة مجزوءة المعرفة
أمثلة من الواقع لمواقف الفلاسفة حول معايير الحقيقة
مثال لموقف سبينوزا
المثال الأول: الرياضيات: تعتبر الرياضيات من أشد العلوم وضوحًا ودقة، حيث تعتمد على البديهيات والمنطق الصارم. فمثلاً، 2 + 2 = 4 هي حقيقة لا تقبل الجدل، لأنها واضحة بذاتها ولا تتطلب أي دليل خارجي.
المثال الثاني: الفيزياء: قوانين الفيزياء، مثل قانون الجاذبية الأرضية، هي حقائق لأنها قابلة للاختبار والتكرار. فمثلاً، إذا أسقطنا كرة من أعلى برج، فسوف تسقط على الأرض، بغض النظر عن معتقداتنا أو أفكارنا.
مثال لموقف دافيد هيوم
المثال الأول: العلم التجريبي: تعتمد العلوم التجريبية على الملاحظة والتجربة لاختبار صحة الأفكار. فمثلاً، تم اختبار نظرية جرثومة المرض من خلال التجارب المختبرية، وأثبتت صحتها.
المثال الثاني: التاريخ: يعتمد التاريخ على جمع الأدلة والوثائق للتحقق من صحة الأحداث. فمثلاً، تم العثور على العديد من الأدلة التي تثبت وجود الإمبراطورية الرومانية، مثل العملات المعدنية والنقوش والآثار.
مثال لموقف ايمانويل كانط
المثال الأول: فهمنا للعالم: لا نستطيع فهم العالم دون استخدام مفاهيمنا العقلية، مثل الزمان والمكان والسببية. فمثلاً، لا يمكننا فهم حركة الأشياء دون مفهوم الزمان.
المثال الثاني: الأحكام الأخلاقية: يعتقد كانط أن الأحكام الأخلاقية ليست مجرد انعكاس للواقع، بل هي ناتجة عن تفاعل بين الواقع ومفاهيمنا العقلية. فمثلاً، لا يمكننا القول أن القتل خطأ دون مفهوم "الخير" و "الشر".
مثال لموقف جون لوك
المثال الأول: الإدراك الحسي: نكتسب معرفتنا عن العالم من خلال حواسنا. فمثلاً، نرى الشمس ونشعر بدفئها.
المثال الثاني: التعلم من التجربة: نتعلم من خلال تجاربنا الشخصية وتجارب الآخرين. فمثلاً، نتعلم أن النار حارة من خلال تجربة لمسها.
مثال لموقف وليام جيمس
المثال الأول: العلاج النفسي: يمكن أن تكون الأفكار مفيدة حتى لو لم تكن صحيحة بالمعنى التقليدي. فمثلاً، يمكن أن تساعد الأفكار الإيجابية في تحسين الصحة النفسية.
المثال الثاني: التقدم العلمي: يمكن أن تكون الأفكار الجديدة مفيدة حتى لو لم يتم إثباتها بشكل قاطع. فمثلاً، ساعدت نظرية داروين في التطور على فهمنا للعالم بشكل أفضل.
مثال لموقف ديكارت
المثال الأول: وجود الذات: يعتقد ديكارت أننا نستطيع التأكد من وجودنا من خلال الشك في كل شيء. فمثلاً، حتى لو شككنا في كل شيء، لا يمكننا الشك في أننا نشك.
المثال الثاني: الرياضيات: يعتقد ديكارت أن الأفكار الرياضية هي أفكار فطرية، أي أنها موجودة في عقولنا منذ الولادة. فمثلاً، لدينا فكرة فطرية عن المثلث، وهي أنه ذو ثلاث أضلاع.
مثال لموقف ليبنز
المثال الأول: المنطق: يعتقد ليبنز أن البرهان المنطقي هو الطريقة الوحيدة للتأكد من صحة الأفكار. فمثلاً، يمكننا إثبات صحة نظرية فيثاغورس من خلال البرهان المنطقي.
المثال الثاني: الرياضيات: يعتقد ليبنز أن الرياضيات هي العلم الوحيد الذي يعتمد على البراهين القاطعة. فمثلاً، يمكننا إثبات صحة أي نظر.
مصطلحات وتعاريف معايير الحقيقة مفهوم الحقيقة
المعيار : ما يقاس ويعير به الشيء أو القاعدة التي تستعمل للحكم على صدق القضية او خطئها.
حدس : معرفة فورية ومباشرة من طرف الذهن بدون وساطة.
بداهة : كل شيء واضح بذاته، لا يحتاج الى دليل أو برهان.
الاستنباط : عملية ذهنية يستخلص العقل بواسطتها قضية جزئية من قضايا عامة، وفق قواعد منطقية.
مقالة مقترحة لك : تحليل ومناقشة سؤال فلسفي حول معايير الحقيقة "التطابق مع الواقع"
خلاصة للمحور
تتعدد أنواع الحقيقة بتعدد مواضيعها، وهذا يفرض تعدد معاييرها، فنجد معيارا كلاسيكيا يعتبر البداهة العقلية معيارا أساسيا للحقيقة، كما نجد في المقابل معيار المطابقة للواقع. أما الموقف المعاصر، فيؤكد على نسبية مفهوم الحقيقة، وبالتالي تعدد معاييرها.
معايير الحقيقة المحور الثاني مجزوءة المعرفة مفهوم الحقيقة الثانية باك.
مقالات ذات صلة
المحور الأول: الرأي و الحقيقة مجزوءة المعرفة مفهوم الحقيقة
المحور الثالث : الحقيقة بوصفها قيمة مجزوءة المعرفة مفهوم الحقيقة
المحور الأول : مشروعية الدولة و غاياتها مجزوءة السياسة مفهوم الدولة
منهجية تحليل ومناقشة سؤال فلسفي جاهزة وفقا للاطار المرجعي
منهجية جاهزة لتحليل القولة الفلسفية السنة الثانية بكالوريا
إرسال تعليق