نموذج تحليل نص فلسفي حول مفهوم الغير : محور معرفة الغير والعلاقة معه

ProfSalmi يناير 14, 2024 مارس 27, 2024
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال: يقال إن من الواجب علينا أن نختار أحد اثنين : إما أنا وإما الغير، غير أننا نختار أحدهما ضد الآخر، ونحن بذلك نؤكدهما معا. ويقال أيضا إن الغير..
-A A +A

 



نص فلسفي في مفهوم الغير: معرفة الغير والعلاقة معه

« يقال إن من الواجب علينا أن نختار أحد اثنين : إما أنا وإما الغير، غير أننا نختار أحدهما ضد الآخر، ونحن بذلك نؤكدهما معا. ويقال أيضا إن الغير يحولني إلى موضوع وينفيني، وأحوله إلى موضوع وأنفيه. والواقع أن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع إلا إذا انسحب كل منا وقبع داخل طبيعته المفكرة، وجعلنا نظرة بعضنا إلى بعض لا إنسانية، وإلا إذا شعر كل منا بأن أفعاله، بدلا من أن تتقبل وتفهم، تخضع للملاحظة مثل أفعال حشرة. ذلك ما يحصل مثلا عندما تقع علي نظرة شخص مجهول. غير أنه حتى في هذه الحالة لا يتحول كل منا إلى موضوع أمام الآخر بفعل نظرة الغير، ولأتولد هذه النظرة الشعور بالضيق، إلا لكونها تحل محل تواصل ممكن.

فالامتناع عن التواصل هو أيضا نمط من التواصل. إن الحرية ذات الأوجه والأشكال المتعددة، والطبيعة المفكرة، والأعماق التي تستباح فيها، والوجود الخالي من الصفة أو الاسم، إن كل هذا الذي يضع فينا أنا والغير حدودا لكل تعاطف، يجعل التواصل معلقا، ولكنه لا يعدمه. إذا ربطتني صلة بشخص مجهول لم ينبس بعد بكلمة، فإنني استطيع أن أعتقد أنه يعيش في عالم آخر لا تستحق أفعالي وأفكاري أن توجد فيه. لكن ما أن ينطق بكلمة حتى يكف عن التعالي علي : هو ذا صوته وهي ذي أفكاره، هو هذا المجال الذي كنت أعتقد أنه يستعصي علي بلوغه، فلا يعلو كل وجود معين على الآخرين بصورة، نهائية إلا حين يبقى عاطلا ويتوطد في اختلافه الطبيعي».

حلل وناقش


تصحيح نص فلسفي في مفهوم الغير مجزوءة الوضع البشري 

حينما نتحدث عن معرفة الغير، فإن الأمر لا يتعلق بمعرفته كجسم أو كعضوية بيولوجية بل معرفته كروح وكذات تحمل أفكارا ومشاعرا. وإذا كانت عملية المعرفة تفترض ذاتا عارفة وموضوعا للمعرفة، فإن الصعوبات المطروحة هنا هو أننا إزاء ذات تريد أن تعرف ذاتا أخرى ؛ فموضوع المعرفة الذي هو الغير هو أيضا ذات واعية وتمتلك جهازا سيكولوجيا مثلها مثل الأنا، أي الذات الأولى التي تريد أن تعرفها. هكذا فالمعرفة المتعلقة بالغير كذات أو أنا آخر، تختلف ولا شك عن المعرفة المتعلقة بالموضوعات الطبيعية أو الأشياء المادية.


ويأتي النص الماثل بين ناظرينا ليثير المفارقات السابقة الذكر، ونسجل أن هذا النص يندرج بشكل عام ضمن مجزوءة الوضع البشري وبشكل خاص ضمن المجال الإشكالي لمفهوم الغير و يندرج النص في إطار إشكاليتي : معرفة الغير وأوجه العلاقة الممكنة مع الغير.

ويمكننا أن نصوغ الإشكالات المؤطرة له على النحو التالي :

- هل معرفة الغير ممكنة ؟ وما الذي يحول بيني وبين معرفته ؟

- ألا يمكن تجاوز هذه العوائق والصعوبات التي تعترض معرفتنا بالغير وما السبيل إلى ذلك ؟

- ما طبيعة الأشكال العلائقية التي يمكن أن تنشأ بين الأنا والغير ؟

- وهل تكون أشكالا سلبية بالضرورة ؟


- كجواب على هاته الإشكالات الفلسفية يذهب صاحب النص إلى تأكيد أطروحته الأساسية التي مفادها أن العلاقة المعرفية الموضوعية التشييئية للغير هي نتيجة للنظر إليه من زاوية الأنا أفكر المتعالي، وهذه الوضعية يمكن تجاوزها عندما يدخل الأنا والغير في علاقة تواصلية.

ولبناء أطروحته استثمر صاحب النص شبكة مفاهيمية غنية استقاها من الحقل الفلسفي الفينومينولوجي، فقد وظف مفاهيم من قبيل : الغير / الأنا / النظرة / التشييئ / التواصل / التعاطف.


ولعل الخيط الناظم الذي يجمع شتات هاته المفاهيم هو أن نظرة الغير للأنا لا تشيئه ولا تحوله إلى موضوع إلا إذا غاب التواصل والتعاطف بينهما.

وإذا كان الأمر كذلك يحق لنا الآن أن نتساءل : كيف دافع صاحب النص عن أطروحته وما مدى متانة العدة الحجاجية التي وظفها ؟

إن النص في مستهله انتقاد لاذع للنظرة الموضوعية التجزيئية التي تعتبر أن الغير بمثابة جحيم بالنسبة للانا مادام وينفيها.

وفي لحظة ثانية ينتقل صاحب النص إلى إبراز أن ما يوطد هذه النظرة التشييئية وما يخلق الهوة بين الأنا والغير هو نظرة كل طرف إلى الآخر من زاوية الكوجيطو المتعالي من جهة، ومن جهة أخرى هو نظرة الغير للأنا نظرة نافية لإنسانيته، نظرة تفحص ومراقبة لا نظرة تفهم وتقبل ومشاركة وجدانية.

وتماشيا مع منهجه الفينومينولوجي يوضح صاحب النص أنه لا مجال للحديث عن غياب التواصل بين الذوات، فحتى في حالة الغير الغريب لا يكون التواصل معدما بل معلقا ورهينا بتبادل العبارات.

ويخلص النص في الأخير إلى أن الإختلاف بين الذوات ليس من نمط الاختلاف الطبيعي كذاك القائم بين الموضوعات (اختلاف الانفصال والتباعد) بل هو اختلاف إنساني لا يلغي التقاطع ضمن المجال البينذاتي المشترك.


وقد وظف صاحب النص لتأكيد أطروحته جملة من الآليات الحجاجية نخص منها بالذكر :

البرهان بالخلف، بحيث انطلق من نقيض القضية التي يريد أن يصادر عليها، وتدرج في هدم الأساس الذي تقوم عليه، ثم خلص إلى بناء أطروحته. وعليه فالنص ذو بنية استدلالية استقرائية، انطلق فيها صاحب النص من قضايا جزئية ليصل إلى بناء قضية كلية.

كما وظف النص أسلوب الإحالة المرجعية (الحجة بالسلطة) من خلال إحالته بطريقة غير مباشرة على موقف الفيلسوف جون بول سارتر. وذلك بهدف هدمه وتقويض الأسس التي تقوم عليه...

وقد عمد صاحب النص إلى توظيف أسلوب المقارنة أيضا : من خلال مقارنته بين الاختلاف بين الذوات والاختلاف بين الأشياء الطبيعية.....

ونسجل أيضا حضورا لالية الأمثلة: فقد وظف صاحي النص نفس المثال الذي قدمه سارتر وهو مثال النظرة، وبين ان النظرة التي تحول الغي الى موضوع هي نظرة جافة لا انسانية في مقابل نظرة التعاطف والتواصل الوجداني

وبتأملنا للروابط المنطقية المشكلة لنسيج النص نجدها تتوزع فيما بين روابط تفيد الاثبات وأخرى تفيد النفي والدحض، إلا أن هذه الأخيرة لها حضور مكثف، نظرا لطابع النص النقدي.

هذا ويمكن دعم النص بمثال من خلال ما يعرف بصراع الحضارات، فالعلاقة المتوترة بين العالم الغربي والعالم العربي الإسلامي ترجع إلى غياب التواصل والحوار بينهما.

إذا كان صاحب النص قد اجتهد في إقناعنا بفحوى أطروحته معتمدا على بنية حجاجية متينة يمكننا الآن أن نتخذ مسافة من النص ونتساءل : أين تكمن القيمة الفلسفية للنص ؟


يمكن رصد قيمة النص من خلال بعدين اثنين : 

أولا : تتجلى قيمة النص في كونه يقدم تصورا متميزا فيما يخص علاقة الأنا بالغير، تصور يقوم على أساس التواصل والتفاعل والمشاركة الحية مادام العالم ليس هو ما نفكر فيه لكن هو ما نعيشه.

ثانيا : النص في مجمله انتقاد وتقويض للمواقف التي اعتبرت معرفة الغير مستحيلة، خاصة موقف جون بول سارتر.


- لكن هل يجد موقف صاحب النص ركنا ركينا يستند إليه من خلال تصورات أخرى ؟ :

إن موقف صاحب النص يجد دعامته في بعض المواقف الفلسفية الأخرى، نخص منها بالذكر موقف «ميرولوبنتي» الذي يرى أنه يمكن معرفة الغير في الوقت الذي أعرف فيه ذاتي، فالذات البشرية قادرة على فهم مباشر للنظام النفسي للغير وبالتالي التواصل مع الذوات الواعية الأخرى. وعليه فإن علاقة الأنا بالغير لا تجعل كل منهما موضوعا وتنفي عنه خصائصه الإنسانية فليس هناك علاقة تشييئية، ولكن معرفة الغير كموضوع هي نتيجة النظر إليه من موقع الذات المفكرة التي يقوم نشاطها على التجريد والتقسيم والحساب، وهي كذلك نتيجة النظر إليه بشكل لاإنساني بحيث تخضع أفعاله للملاحظة مثل أفعال حشرة بدل أن تتقبل وتفهم ويمكن تجاوزها الوضعية بالاعتراف المتبادل لكل منهما بفرديته ووعيه وحريته...

لكن إلى أي حد يبقى التصور المعروض في النسن كافيا لحل الإشكالية التي يطرحها ؟

- يمكن أن تتناول الإشكالية من زاوية أخرى، فعلى النقيض من الأطروحة المعبر عنها في النص يذهب جون بول سارتر إلى أن قابلية الغير للمعرفة تعني بالضرورة تحويله إلى موضوع لنشاط معرفي تقوم به الذات، وهو الأمر الذي يؤدي الى تشييئه وسلبه مقوماته الذاتية من وعي وإرادة وحرية، وهكذا يرى سارتر أن معرفة الغير باعتباره «أنا أخرى» عملية مستحيلة، لأن هذه المعرفة تحدث بين الأنا والغير تباعدا كبيرا، ذلك أن «الغير يتجلى لي على نحو امبريقي، بمناسبة إدراك جسم، وهذا الجسم هو شيء في ذاته خارجي بالنسبة الى جسمي.» ومن هذا المنطلق يعتبر سارتر أن العلاقة بين الأنا والغير هي علاقة متبادلة بين ذات وموضوع، لأن كلا من الطرفين يحد من حرية الآخر ويمارس نوعا من الرقابة عليه، وهو ما يعبر عنه بقوله : »أما أن أجعل نفسي ذاتا، فأحول الآخر إلى موضوع، واما أن أنظر الى الآخر كذات فأدعه يحولني إلى موضوع.» اذ تكفي نظرة احتقار من الغير لتشعر الذات بالخجل والضيق والدونية. ولعل هذه العلاقة اللامتكافئة بين الأنا والغير هي التي ألهمت سارتر قولته الشهيرة : »الجحيم هو الآخرون».


- هكذا كشفت لنا رحلة البحث في إشكاليتي : معرفة الغير وأوجه العلاقة معه عن وجود موقفين متعارضين :

- فإذا كان موقف صاحب النص معززا بموقف ميرولوبونتي قد ذهب إلى اعتبار أن معرفة الغير ممكنة شريطة التواصل معه والإعتراف المتبادل لكل من الأنا والغير بفرديته ووعيه وحريته. فإن معارضهما جون بول سارتر.. لا يشاطرهما الرأي، إذ ذهب إلى حد اعتبار أن معرفة الغير باعتباره «أنا أخرى» عملية مستحيلة، لأن كل محاولة من هذا القبيل هي تشييء للآخر وتحويله إلى موضوع، وبالتالي فالعلاقة بين الأنا والغير علاقة متوترة فالآخرون بمثابة جحيم للأنا.


- نائية عنا كل دعوى إحاطة بإشكالية الغير، لكن مهما يكن من شأن معرفة الغير سواء اعتبرناها ممكنة أو مستحيلة فإن العلاقة معه أغنى وأعقد، فهل تتتسم العلاقة مع الغير بالضرورة بالنبذ والإقصاء كما تكرس ذلك العلاقات بين دول الشمال ودول الجنوب ؟


شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3332087102290997945
https://www.profsalmi.com/