موضوع سؤال فلسفي حول التجربة والتجريب
السؤال
« ما دلالة التمايز بين التجربة والتجريب العلمي؟ »
تصحيح نموذج التجربة والتجريب سؤال فلسفي مفهوم النظرية والتجربة
مطلب الفهم
لا يترك العلماء نتائج أبحاثهم متناثرة، بل يحاولون تجميعها وفق نظام فرضي استنباطي يسهل تداوله في الوسط العلمي، هذا النظام المعرفي هو ما ندعوه "النظرية العلمية". وقد كانت النظرية في العلم اليوناني القديم معرفة تأملية منفصلة عن التجربة؛ غير أن ازدهار العلوم التجريبية في العصور الحديثة أدى إلى ربط النظرية بالتجربة أو بالتجريب العلمي. وإذا كانت المعرفة العامية تنبني انطلاقا من التجربة العادية بوصفها انطباعا حسيا بسيطا، فإن المعرفة العلمية تتأسس على التجربة العلمية أو ما يسمى بالتجريب العلمي الذي يتوخى الدقة والموضوعية في اختيار الفرضيات المقترحة لتفسير الظواهر المدروسة: فما الفرق بين التجربة والتجريب؟ ما دلالة التمايز بين التجربة والتجريب العلمي؟ وما هي شروط التجريب العلمي وحدوده؟ وكيف تتفاعل النظرية مع التجريب في مجال العلوم التجريبية؟
مطلب التحليل
يحيل مضمون السؤال على أحد أهم المشاكل الإبيستمولوجية التي شغلت الفكر الفلسفي المعاصر اليوم، والمتعلقة بالتصور الذي يراهن على دور التجريب العلمي وقيمته في بناء النظريات العلمية، وفي كشف قوانين الظواهر الطبيعية، وتمايزه عن التجربة العادية العفوية؛ التي تشكل أحيانا بداية للتجريب العلمي ومنطلقا له، وأحيانا أخرى عائقا أمام بلوغ المبتغى من وراء التجربة العلمية المنهجية الدقيقة، وبالتالي فإن البحث في سؤال التمايز بين التجربة العادية والتجريب العلمي له أهمية قصوى وضرورة ابستمولوجية (معرفية) ورهان ميتودولوجي(منهجي) كبير.
إن التجربة في معناها العام، تعبر عن جملة التعلمات والقدرات التي يكتسبها الشخص من خلال احتكاكه بالواقع المعيش، إنها تلك الملاحظات العفوية والأولية للظواهر الطبيعية والتي تعتبر منطلقا أساسيا للعالم الباحث لإقامة ما يعرف بالتجريب العلمي الذي يراهن على إخضاع الظواهر الطبيعية لشروط محددة سلفا يضعها العالم نفسه داخل المختبر؛ أي استنطاقا منهجيا للظواهر وليس خضوعا عفويا لها وهو بداية تشكل المعارف العلمية المنظمة المؤسسة على بناء موضوعي ومنطقي صارم وأدوات تجريبية دقيقة.
ومن هنا فالتجريب العلمي يتميز عن الملاحظة البسيطة للظواهر دون أن يتخلى عنها في بناء المعرفة العلمية، فرغم بساطتها وعفويتها، إلا أنها تشكل أساسا حقيقيا ينطلق منه العالم لبناء تجريب علمي دقيق خاضع لخطوات منهجية، وذلك؛ لأن العالم لا يمكن أن يصنع الظواهر الطبيعية من عدم، بل؛ من خلال ملاحظتها كما تحدث في الطبيعة، فهو رجل عادي يلاحظ الظواهر قبل أن يكون عالما يعزلها بغاية تفسيرها.
مطلب المناقشة
إن التجريب العلمي لكي يكون كذلك ينبغي أن يقوم على مجموعة من الإجراءات التجريبية التي حددها العالم الرياضي الفرنسي روني طوم في أربعة مراحل:
- تهيئ المختبر كمجال زمكاني للنسق المدروس؛
- تحضير عينات للدراسة (كائنات حية - مواد كيميائية...)؛
- إحداث خلل في الظاهرة المدروسة وفق مصادر موجهة بعناية؛
- تسجيل وتدوين استجابات الظاهرة المدروسة لهذا الخلل بواسطة أجهزة دقيقة.
وحسب روني طوم فمن خلال التجريب العلمي والمرور من هذه الإجراءات التي تحكم الممارسة التجريبية يتم الحصول على واقعة تجريبية لن تكون كذلك إلا إذا كانت التجربة قابلة للإعادة والتكرار كلما توفرت نفس الشروط المخبرية، وأن تكون تلك الواقعة قابلة للاهتمام التطبيقي الذي يجعلها قابلة للاستجابة لحاجيات بشرية، وقابلة للاهتمام النظري الذي يجعل البحث يندرج ضمن إشكالية علمية قائمة، حيث كتب يقول:" لا يمكن للتجريب، ليكون علميا، أن يستغني عن التفكير، غير أن التفكير عملية صعبة تنفلت من كل منهج." لذلك يؤكد "روني طوم" على أهمية العنصر النظري في بناء الممارسة التجريبية التي لا تكون كذلك إلا إذا استعانت بالعقل الرياضي وإبداعاته.
ولتوضيح دور التجريب العلمي في بناء النظريات العلمية نستحضر مثالا لتجربة علمية، قام بها الفيزيولوجي الفرنسي كلود برنار، والتي انطلق فيها من ملاحظة بول الأرانب الحمضي في تغيراته، مما جعله يضع فرضيته التفسيرية التي تحث على أن الأرانب لم تتناول الطعام لمدة طويلة مما جعلها تقتات من دمها لحفظ بقائها، وهذا ما دفعه إلى التحقق من ذلك عن طريق التجريب؛ أي إعادة عملية منع الطعام والإطعام مرة أخرى، مع تكرار مستمر لهذه العملية، حيث كانت النتيجة واحدة في كل الحالات مما جعله يستخلص قانون علمي عام هو: أن كل الحيوانات العاشبة تتغذى باللحم عن إمساكها عن الطعام.
وبالتالي، فالتجريب بمعناه العلمي هو الاستخدام المنظم للتجربة العلمية، استخدام يبدأ من الفرضية التي بدونها لا يمكن، حسب كلود برنار، الحصول على أي معرفة علمية ولا القيام بأي بحث تجريبي، لكن هاته الفرضية لا تنبثق، فيما يرى، من الذهن بصورة عفوية، بل؛ من خلال الملاحظة الواقعية لظاهرة ما، كما أن الفرضية لا تدخل في إطار العلمية؛ إلا إذا كانت قابلة للتحقق التجريبي منها داخل المختبر، أي إعادة تكرار الظاهرة، هذا التكرار الذي يخضع لمبدأ الحتمية، أي نفس الشروط تؤدي إلى نفس النتائج، مما يفضي بالعالم إلى صياغة القانون العام المتحكم في الظاهرة المدروسة.
وفي نفس السياق الذي يرى فيه كلود برنار أهمية الفرضية في بناء تجريب علمي قائم الذات، يؤكد أرموند كوفيلييه من خلال مثال لتجربة علمية تعرف في تاريخ العلوم بتجربة توريشللي أن الملاحظة هي التي تدفع إلى التساؤل والتساؤل يقود إلى إنشاء فرضيات علمية والفرضيات العلمية تصاغ في تفسير رياضي يؤكد عن طريق التجريب العلمي.
مطلب التركيب
يبني العلم التجريبي إذن؛ قوانينه تبعا لخطوات منهجية ونظرية، تجمع بين شروط الملاحظة العلمية (وليس العادية) ومبادئ التجربة عندما تخضع الفروض لمبدأ التحقق العلمي. لكن التجريب بهذا المعنى لا يشكل مقوما وحيدا في تفسير الظواهر وفهم الطبيعة، إذ لابد من اعتبار عنصر الخيال وإدماجه في الممارسة التجريبية. إن الخيال هو تجربة ذهنية تمنح للواقع العلمي غنى كبيرا، فكثير من التجارب اليوم تعتمد الصورة بدل الواقع، والأثر بدل الشيء، وهذا ما تؤكد عليه الفيزياء المعاصرة، التي تجاوزت مبادئ وتقنيات العلم الكلاسيكي. فأيهما يحكم الآخر إذن ويوجهه؟ هل الخيال العلمي النظري أم التجريبي الواقعي؟ .
إنجاز الأستاذ: بلال مراوي؛
إرسال تعليق